|
هذه التكنولوجيا.... التي فضحتنا
علي بداي قبل ان نلج نحن جموع العرب والمسلمين باب التكنولوجيا في الصحافة والاعلام، كنا مستورين بعض الشئ وكان كتابنا محصنين ومتمتعين بقدر من الاحترام باعتبارهم شغيلة البناء الفوقي بما يعنيه ذلك من بعض " شهرة"، وقرب ما من "مصادر الخبر" و"قيادات الدولة"، كما ان الوظيفة المرتبطة بالقلم والورق في بلاد تعج بالاميين كامبراطورياتنا العرب/اسلامية، غالبا ما كانت تسم صاحبها " بالثقافة" و"المعرفة والاطلاع "، وكان ذلك بحد ذاته مجدا صغيرا، يعوض به الكاتب مشقة التفكير والبحث اضافة الى ضآلة مدخوله المادي المتواضع عادة، والمنافسة الاجتماعية الحادة التي يخوضها مع ابناء جيله من ممتهني المهن "الراقية" حسب التصنيف الاجتماعي السائد كالمهندسين والاطباء. كان الكاتب يقاس بكتابته، اذ لا يوجد رئيس تحرير يغامر بتشغيل كاتب يجهل قواعد اللغة، او يتشتت في طرح موضوعاته مشتتا معه ذهن القارئ وبالتالي الدريهمات المعدودة من ايراد الصحيفة او المجلة، اما المادة المكتوبة من الكتاب المساهمين، فتخضع لاختبارات متتاليه الى ان تتحول الى عمود او مقالة. وقبل ان تدخل تكنولوجيا الكومبيوترلتزيح الالة الطابعة ،كان الكثير من الكتاب يكتب مادتة بخط يده ، وكان الكثير من المحرريين يكون الانطباع الاول عن الكاتب من جودة الخط وندرة الاخطاء اللغوية، ثم يتناول المادة المكتوبة بالتحليل والتقويم والتقييم النهائي. كانت علاقة الكاتب المباشرة بقراءه، معدومة ، ثم نشأت زوايا التعليقات على المقالات التي كانت ايضا خاضعة لرقابة التحرير، لكن الكاتب كان بالنسبة للقارئ، مجرد اسم مجهول العنوان ومحل الاقامة، محصنا لايخشى من سلة شتائم تهدى اليه اوفيروسات مشتراة بسعر غال بقصد اسكات قدرته على الكتابة. كانت الامور تسير ببطئ ولكن بمنطق معقول ، حتى راينا انفسنا ذات صباح وجها لوجه امام التكنولوجيا، الهاتف المنقول الذي يخفي شخصيتك عمن تروم مضايقته ( او بالاصح مضايقتها) واخيرا الانترنيت والصحافة الاليكترونية التي تمكنك في خلال نصف ساعة ان ترى " عصارة افكارك" وصورتك على شاشة الكومبيوتر. لااعرف ان كانت الشبكات الاليكترونية التي تشترط على كتابها اشهار بريدهم الاليكتروني قد فعلت ذلك عن قصد، لتجنب تبعية ردود الافعال بتحويلها الى الكاتب نفسه في حين تبقى هي بمنجى من اي هجوم، او كان شرطها هذا الزاما للكاتب بتعريف نفسه امام الادارة. في كل الاحوال، استبيح الكاتب الجيد الذي توسل بالتكنولوجيا وسيلة للوصول الى اوسع تجمع ممكن من القراء ، استباحة قاسية من قبل سلطتين متخلفتين في آن واحد: اولهما سلطة القارئ المتخلف الذي يختفي كالارهابي خلف اسم مستعارعادة، لينتقي كل ما تجود به مفردات اللغة البذيئة تعبيرا عن اختلافة مع طرح الكاتب، دون ان يجرؤ على مناقشة فكرة واحدة، او التعبير بالكلام البشري المتحضر المتعارف عليه عن قناعاته المغايرة . ولان المهاجم الملثم جبان، لذا فهو لا يقوى على سماع رد الفعل الذي تخلفه بذاءاته، فيذيل شتائمه بعبارة من قبيل: انا لااقرأ البريد الاليكتروني الذي يصلني منك، فلا تتعب نفسك بالرد!! وهو بالحقيقة يمارس تكتيك الجبناء بالضرب في الظلام والهرب سريعا بلا اثر، خوفا من العاقبة. اما الكاتب الردئ ،المستبيح الثاني ذلك الذي ماكان ليحلم حتى بمثل هذه الفرصة النادرة، فهو غير قادر على ممارسة فعل الكتابة اصلا باعتبارها اضاءة للواقع ، بل هو المستعد لكتابة اي شئ ينشر اسمه مادامت التكنولوجيا لاتمانع، جارا معة سمعة المنبر الذي يستخدمة للحضيض ، اكتب ما تريد ، دون خشية من قلم مصحح لغوي، او مقوم صحفي، اكتب عن اي شئ ، خاصة اذا تعلق الامر بالسياسة التي هي مهنة شعوب الشرق الاوسط التي لم يجنوا منها شيئا، اكتب عن ما تعرفه وعن ما لاتعرفه، وافق اليوم فكرة وهاجمها غدا، سوف لن يتعرف عليك احد، وبامكانك بالطبع، في كل الاحوال بلوغ قمة الانتشاء والزهو بانك قد قاربت ولوج باب المجد ، وان الملايين تتابع ماتقرء، اذ لايوجد على وجه هذه الارض من يستطيع ان يمنعك من الكتابة بحجة ان ماتكتب لايقراه احد، او ان ماتكتب لايرق حتى الى مستوى مايكتب في نشرة المدارس الابتدائية الحائطية! انتهى زمن العلاقة الربحية بين الصحيفة وكاتبها، وتحول رئيس التحرير الى مؤجر يؤجر المساحات بالمجان لتتصارع عليها الاراء وتكفش الافكار روؤس بعضها، وتتعلق النظريات بارقاب معارضاتها، ويسب الكتاب الكتاب والقراء الكتاب ويهددونهم بالموت كما يهدد الارهابي ضحيته، عولمة تلك ام انحطاط وفوضى؟ انتهى زمن اللياقة الادبية واحترام القصد النبيل الذي يجعل الكاتب كاتبا، والمحاور متحليا بحسن مخاطبة محاوره، وابتدا زمن التنابز بالالقاب فهذا ذو كرش وذلك ذو راس منتفخ واخرالاعور الدجال والى ماذلك من نعوت انقرضت لدى الكثير من الاقوام وبقيت تتجدد لدينا،ولدينا فقط أحرية رأي هذه ام حجة نضعها بايدي حاكمينا المستبدين لكي يبرهنوا على عدم جدارتنا بالحرية والديموقراطية ؟ لقد كشفت التكنولوجيا كم الحقد البدوي الذي يعتمل في اعماقنا، وبينت جوانب من قدرتنا الهائلة على التدمير والالغاء، والقت بحزم من الضوء الساطع على مكامن الانانية الراقدة داخل اعماق شخصيتنا العرب/ اسلامية ! اذكر حين كنت طالبا في الثانوية، قدم استاذ لمدرستنا للبدء بمشروع دراسة بدت لنا وقتها عجيبة اسماها الادب المراحيضي ! كان هذا الاستاذ غير المالوف، ينوي الغوص في اعماق شخصية ذوي الكتابات البذيئة في تواليتات المدارس ليعرف الدوافع ويحللها، فاذا كانت المراحيض سبورة الجبناء ، كما يحرص مدراء المدارس على التذكير به في بداية كل عام دراسي ، فماذا نسمي شبكة الانترنيت التي وفرت فرصة سكب السفالات والنذالات ، وتفريغ قاموس الشتائم دفعة واحدة من قبل من لا يتجرأ ان يتكلم الا في الظلام الدامس، حيث لاملامح، ولادلائل ، ولا حتى بقية من ورق التوت!
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |