في عالم الجهل، والدجل، والرياء، لم تعد الثقافة، والعلم، وسعة الإطلاع، وفن الخطابة، والذكاء، باباً لأي كان، لكي يصل إلى عالم الشهرة، وقلوب، وعقول الناس، بل أضحت الهمجية، والبدائية، والقسوة، والانحطاط هي واحدة من أهم العوامل التي تجعل من النكرات، والموتورين، والقتلة العصاة، نجوماً، ومشاهيراً تتناقل أخبارهم قنوات الفضاء ووسائل الإعلام. وعندها فقط يقوم مايستروات إعلام التضليل المهجّن، بعقد الندوات عنهم، والتغزل بهم، وتدبيج المقالات حول فكرهم الخلاق، ومحاولة تفسير رؤاهم الاستراتيجية العصية على البسطاء، والمغفلين الأغبياء. فهاهي سلسلة إرهاب فيديو- كليب الرائجة جداً هذه الأيام تحمل لنا رسالة دموية أخرى من "نجم" آخر من لوردات الموت، ومصاصي الدماء، في ممالك الطالبان وهو الأفغاني قلب الدين حكمتيار. هذا النجم المتخفي، والطالع من أحد الجحور وأوكار تورا بورا، والذي لم يكتف مطلقاً بكل ما سفكه من دماء، وما أزهقه من أرواح، في الحرب الأهلية الأفغانية. إنها آخر إصدارات العالم السفلي المليء بالإجرام، والحقد، والموبقات، وأحدث ما أنتجته مصانع الكراهية، وغيتوهات الموت والظلام. ولا شك سيجد من يصفق، ويهلل له من المؤيدين، والأنصار، الحالمين بامبراطوريات الطالبان الموعودة، حيث يسود عالم الأشباح، وتنعدم كل أسباب الحياة الحضارية، و يكثر فيها السيافون، والجواري، والغلمان.
فلا تحلموا بعد اليوم بأي فن، وروعة، وجمال، ولا بكليبات لنانسي، وروبي، وهيفاء. أو بقدود خيزرانية ميّاسة ملساء، تتهادى على الشاشات، تثير فيكم الحمية، ونخوة الرجال. أو بوجوه سمحة، باسمة مغناج تتأوه دلعاً، وتغني عن الحب، والعصافير، والبلابل، والأزهار، بل بأجسام ضخمة خشنة جلفاء، لبشر أشرار، بوجوه كالحة عابسة خرقاء، تثير القرف، والرعب، والاشمئزاز، وهي تهدد، وتتوعد بزرع الموت والخراب والدمار والانتقام، وتحيل حياتكم لكوابيس دائمة، وعوالمكم النضرة الخضراء لجحيم دائم، وجهنم حمراء. وما على طلاب الشهرة، والمجد، والمغامرات، بعد اليوم، سوى اعتمار العمامات، وإطلاق اللحى، ومصادقة أحد الرشاشات، لكي تنهال عليهم العروض، ويصبحون من نجوم السهرات والليالي الملاح في الفضائيات.
فلقد أصبحت شهوة القتل، وسادية النفس، وشذوذ السلوك والانحراف، في عصور الانحطاط، هي جواز السفر الوحيد لعالم الشهرة، والتأليه، والتقديس، وبلوغ المجد، والتربع على رقاب العباد. فهذا السيل من فيديو كليبات الموت لنجوم الظلام، والذي يتم الترويج له بشكل متعمد عبر وسائل إعلام بعينها، هي بلا شك وإن كانت بعض انعكاس للثقافة السائدة في هذه المجتمعات، إلا أنها رغبة ملحة في ترويج، وتعويم هؤلاء الناس، وخلق صورة معينة، تشوه صورة هذه البلدان، بكل ما فيها من تنوع، وثراء. وبأن هذه المجتمعات، لا تنتج إلا هذه "الأشكال" والأنماط، ومن خلال ذلك، تقديم خدمة سياسية ما، لجهة ما، في استراتيجياتها المتبعة في المنطقة. وبأن هؤلاء الناس لا يستأهلون أكثر مما هم فيه، و"نحن"، كدعاة وحماة للديمقراطية، محقون في مساعينا، وفي كل ما نقوم به من أعمال في هذا البلد أو ذاك. ألم يعترف جورج بوش، مثلاً، بأن أحد أشرطة أسامة بن لادن جاء في وقته، وفي عز حملته الانتخابية، وساعده، بشكل ما، على الفوز بولاية رئاسية ثانية؟ ومن الجدير ذكره، أن الأثر النفسي، وردة الفعل، والرسالة التي تحملها هذه الأشرطة تختلف من مجتمع لآخر حسب الثقافة السائدة في كل مجتمع على حدة. ومن هنا، ما تحدثه هذه الأشرطة في طبقات الرعاع، والمجتمعات المغلقة، مثلاً، من فرح، وطرب، وإعجاب، هو مختلف تماماً، عما تحدثه في طبقات الإنتلجنسيا، والمجتمعات المفتوحة متعددة الثقافات، والمفتوحة على مصراعيها على كل التيارات، من تنديد، واستغراب، واستهجان.
لا شك إنها تجارة رائجة تلقى الترحيب والإعجاب، في هذه الأيام في الممالك الطالبانية التي تشب، وتنمو، وتزدهر هنا، وهناك، وأرباحها وعوائدها تصب في غير أكثر من مكان. فلم تكد تنحسر صور الثلاثي المشين ظواهري- بن لادن- الزرقاوي في "كليباتهم" الدموية البدائية، حتى دخل على الخط هذا اليوم النجم الجديد من رموز القتل والإرهاب والعصيان، قلب الدين حكمتيار أحد لوردات الحرب، ومصاصي الدماء الأفغان بـ"كليب" إرهابي جديد ليكتسح سوق الفضائيات، من الباب للمحراب، وينشغل به المحللون، والفلاسفة الثقاة.
فما الفائدة المرجوة اخيراً من تكرار هذه الاشرطة، بعد أن وصلت جميع رسائلهم وعرف القاصي والداني، مضمونها، وأصبحت مكشوفة، ومعروفة للجميع، وبلا استثناء، ولم تعد تحمل أي جديد على الإطلاق. غير أنه من السذاجة تماماً، بعد الآن، النظر لهذا النوع من النشاط الإرهابي وبوجهه الإعلامي على الأخص، بنوع من التغاضي، والبراءة، والإهمال.