ثلاثون يوما في سجن المطلاع

مزهر بن مدلول

mazher-madlol@hotmail.com

في السجنِ ، أعيدُ حياكة  الذكريات ، فيبدو نسيجها ، باهر الشكل ، عميق المعاني ، كأني لم أكن هناك .

ليس في غرف الحبس زاوية ، فالمكان وجسدي ، لاقيمة في اتصالهما ، وكنت دائما ، ابحث عن وشائج مع زمن سيأتي .

الساعة ، منتصف النهار ..

شمس اب ، تنشر حرائقها على الحدود الحرام .. فتهرب دوريات الحراسة ، من شدة التهابها ..

تلك ، بعض نصائح ، من احد معارفي ، يسكن في صفوان ، أومأ لي بيده ..

هذا هو  الاتجاه .. فمشيتُ .

ساعةٌ بعد اخرى ..

لاأحملُ ، إلاّ زمزمية معدنية ..مائها كان يغلي .

إبتعدتُ ، وابتعدتُ .. حتى خرجتُ ، أو هكذا بدى لي ، بأني خرجتُ من ايِّ مكان .

أنا والسراب ، كرسوم اشباح .

هنا ،لا سعفة ، ولا ظلال ، وليس في فمي شيئ امضغه . تضاعف زمن المسافات ، فايقنت ، بأني قد سلكت طريقا خطأ، لكني كنت عازما على المشي . هكذا ، حتى وصلت عند الغروب الى مزرعة عراقية ، يفصلها عن الحدود ، طريق اسفلتي فقط . انبطحت في ساقية جافة لبعض الوقت ، وكانت دوريات الحراسة ، بدأت تتحرك من كلا الجانبين . بعد ذلك ، طرقت الباب ودخلت . كان في المزرعة ثلاثة من العمال ، قدموا لي الماء والطعام ، ونصائحا عن كيفية العبور ، وبأي اتجاه اسير . قالوا لي .. إنّ ساعة واحدة ، سوف تصلني الى مزرعة كويتية ، يعمل فيها مجموعة من المزارعيين العراقيين . وحين بدأت الظلمة ، تعم المكان ، تسللتُ بهدوء اول الامر ، وبعد ذلك ركضت مسرعا ، وفعلا وصلت بعد ساعة او اقل منها الى تلك المزرعة . استقبلوني اهلها بترحاب وضيفوني مالديهم .

امضيتُ هناك مايزيد على الستة شهور ، متخفيا بين الاحراش نهارا ، ومع العمال ليلا ، وكنت انتظر ، لكي  تتسنى لي فرصة العبور الى الكويت .

بين المزارع ، واول مدينة كويتية ، التي هي الجهراء ، تمتد صحراء واسعة ومخيفة ، ولايمكن لاي احد ان يتحرك فيها بسهولة . فأن استطاع ان يفلت من حرس الحدود ، فلن يفلت من الذئاب الجائعة ابدا. وقد سمعت قصصا كثيرة عن ذلك ، منها ماهو حقيقي ومنها ماهو من نسج الخيال ، لكنه لاينفصل عن الواقع كثيرا .

وكيل المزرعة ، تعاون معي كثيرا ، وأخذ يسأل في المزارع الاخرى ، عن امكانية تهريبي ، حتى جاء في احد الايام مسرورا ، واخبرني ، بأنه اتفق مع احد على ذلك .

في فترة وجودي في المزرعة ، جاء ثلاثة رجال من العراق ، يريدون العبور ايضا . وفي احد الايام ، جاء المهرب بسيارته ،وطلب مائة وخمسين دينار لكل واحد منا ، وإتفقنا . الرجال الثلاثة ، كلهم من منطقة الفهود ، في الناصرية، وهم من المتطوعين في الجيش والهاربين منه ،وكانت هياكلهم كبيرة الحجم بالمقارنة معي .

تحركت السيارة قبل الغروب بقليل ، بعد ان حشرنا المهرب في الشنطة الخلفية ، وكنت اتوسطهم ، اجلسُ القرفصاء ، فالمكان كان ضيقا ، لايسع لنا ، حتى اني في الربع الاول من الساعة الاولى ، بتُّ لااشعر بوجود بعض انحاء جسدي ، بسبب ثقل الجثامين ، التي حاصرتني .

الهواء ، الذي يتسرب الينا ، عبر ثقوب ضيقة ، كان قليل ، وكلما انخفضت سرعة السيارة ، كلما قلت كمية الهواء .

ومع كل هذا الموت ، الذي يجاورني ، كنت احلم بالوصول ، الذي سيُركبُني السفينة .

بعد ساعتين تقريبا ، توقفت السيارة في المطلاع لغرض التفتيش . كنا نسمع الشرطي ، الذي انهال على المهرب بالاسئلة .. من اين انت ؟ والى اين ذاهب ؟ وماهو غرضك ؟ ... الخ . لكنه ، فجأة طلب من المهرب ، ان يصطحبه الى داخل المركز.

تأخرمهربنا زمنا لايزيد عن العشرة دقائق ، وكنت اشعر، بأن مياه جسدي ، قد تبخرت ، والثقوب ، التي يدخل منها بعض الهواء ، قد أُغلقت ، وبدأنا نتنفس بصعوبة كبيرة ، ثم اتفقنا ، بالاشارة والهمس ، باننا لانستطيع ان نقاوم اكثر من دقيقتين. فانْ لم يأت ِ، سوف نصرخ ، لنقول نحن هنا ، وبينما نحن في هذه الحال ، واذا بنا نسمع خرخشة مفاتيح ، في محاولة لفتح الشنطة ..

الشرطي فتحها .. نظر الينا بدهشة واضحة ، ثم اطبق الباب بسرعة ، لكننا حصلنا على كمية من الهواء جيدة ، ثم راح يصرخ ، وكأنه جُنّ .. [فلان ، فلان .. تعالوا ..  إكعيبر بالسيارة ] . جاء عدد من الحرس ، يهرولون ويلوحون بعصيهم ، انزلونا من السيارة ، وكنت في غيبوبة  في ذلك الحين ، لكني سمعت شيخا من الحرس قال .. [ تعالوا اولادي لاتخافون ] .

السجن كبير ، غرفه كثيرة ، يزدحم الموقوفون فيه ، وكلهم من جنسيات عربية مختلفة ، جاءوا من العراق ، بطريقة غير شرعية  للبحث عن عمل . كل شئ في ذلك السجن سيئا ، عدا الطعام .

استدعانا الضابط في اليوم التالي للتحقيق ، وقبلها ليلا ، اتفقنا نحن الاربعة ، على ان ندعي باننا سوريون وليس عراقيون . التحقيق معنا كلا ً على انفراد ، وهواجراء عادي وخالي من اي شكل من اشكال الاهانة او التعذيب . عاد اول واحد من التحقيق ، وعرفنا منه الطريقة التي يحققون فيها ، والاسئلة المهمة التي واجهته  ، ولكن عندما سالناه ،هل قلت بانك من سورية ؟..  قال .. نعم قلت ذلك .. لكنهم [ سووني كركزان ] ، يعني ضحكوا وسخروا منه بشدة ، وسجلوه عراقيا ، وهكذا تعاملوا معنا ايضا.

بعد ان مضى علينا شهر كامل في سجن المطلاع ، نقلونا الى سجن التسفيرات العامة في العاصمة ، وكان العدد يتجاوز الخمسين ، وعدد العراقيين بينهم كان عشرة فقط .

سبق لي وان تعرفت في السجن على شاب من سورية ، يبدو انه حاول العبور لمرات عديدة ، ولم ينجح . ذلك الشاب ، ادرك خطورة قضيتي، فزودني بكثير من المعلومات المهمة . في الصباح كنا نستعد للترحيل ، الجميع يجب اعادتهم من حيث جاءوا .. الى العراق . اصطففنا واخذوا ينادون بالاسماء ، كل من يسمع اسمه عليه ان يدلف الى المركبة [ السجن ]، حتى كنا نحن العراقيين اخر الاسماء . جلبوا [ الكلبجات ] ، ووثقوا ايدينا ، كل اثنين  بكلبجة واحدة . العراقيون فقط ، يجب ان تو ضع [ الكلبجات] بايديهم ، ووحدهم فقط ، ان تدون اسمائهم لكي يتم استلامهم من قبل شرطة صفوان ، حيث يتم التوقيع بالاستلام ، اما الاخرون ، فانهم يدخلون الى العراق دون ان يسالهم احد  من شرطة مركز صفوان الحدودي ، هكذا تقضي الاتفاقية الامنية بين البلدين. جاء الشرطي ليضع الكلبجة في معصمي ، فرفضت ، مدعيا باني سوري الجنسية ، لم يقل شيئا ، لكنه نادى على الرقيب ، الذي قال لي .. اقسم بالله العظيم .. انت عراقي .. وانت من الناصرية ، واضاف .. ان صدام حسين اشرف منكم جميعا !!! . ولاادري ، اذا كان ذلك الشرطي قد ارتاب في حالتي . ثم جاء رجل مخابرات ، يلبس دشداشة بيضاء وعقال ، قال لي هو الاخر .. سوف اريك ، عندما نصل الى صفوان .. انت تخفي شيئا .

صعدت الى الباص السجن ، وكان جسدي ، يرتعد من تهديد رجل المخابرات . حين تحركت المركبة ، جاء ناحيتي صديقي السوري ، واخبرني ، بان لديه مفتاح ، يمَكنه من فتح الكلبجة ، وقال ايضا .. عندما نصل الى العبدلي ، سيتوقف الباص وينزل منه الجميع عدا العراقيين ، وعليك ان تسرع بالنزول ، ثم نركض باتجاه صفوان . شكرته على ذلك ، فتح لي الكلبجة . ولسوء حظي ، عندما وصلنا الى العبدلي ، لم يطلبوا من غير العراقيين ان ينزلوا ، بل قالوا على العراقيين ان ينزلوا اولا . دبَّ اليأس في نفسي ، نزل العراقيين التسعة ولم انزل ، فسالهم الشرطي .. اين عاشركم ؟ . فرد الرجل الذي يقاسمني الكلبجة .. انه  ليس عراقي . فجاء لي الشرطي وبكل ادب طلب مني ان اذهب معه ، وقال لااستطيع ان افعل شيئا الان ، لانك لم تحسم الامر من دائرة التسفيرات . نزلت معه . ثم طلبوا من الاخرين ترك المكان والعودة الى العراق.  اعادونا الى الباص مرة اخرى ، بعد ان فكوا اغلالنا . لااستطيع ان اوصف الرعب ، الذي اصابني في  ذلك الوقت ، من الرجل ، الذي هددني. تحرك الباص من العبدلي بأتجاه صفوان . كنت افكر ..كيف لي ان ابتدع حيلة ، لكي اتخلص من هذا الجحيم الذي اخذ يزحف نحوي .

توقف الباص في باب المركز . صعد إليه  شاب ، جنوبي الملامح ، وجهه خاليا من اية قسوة ، رتبته العسكرية [عريف]  . قال .. السلام عليكم .. وعليكم السلام .

كلكم عراقيين ..

رفعتُ يدي ..

نعم اتفضل ..

انا سوري .. لكنهم خبطوني مع العراقيين . ولاادري من اين جائتني هذه الخبطوني ..

مااسمك ..

فلان الفلاني .. اخذ قلمه وشطب اسمي ودون اي شئ اخر . . قال .. انت خليك مكانك . وانتم ، خاطب الاخرين .. تعالوا معي . اغلقوا باب الباص ، وتركوني . كل دقيقة تمر ، كان خوفي يزداد ، الشرطة الكويتيون ورجل المخابرات دخلوا ايضا الى داخل المركز . مالذي سيقوله ذلك الرجل . ربما ضميره سيمنعه من ان يقول شيئا . وكنتُ ... [ حسبة اجيبني وحسبة توديني ].لكن ذلك لم يدم طويلا ، فقد جاء الجميع الى الباص ، الذي عاد بي الى العبدلي . انزلوني ، وكانت على وجوهم مظاهر الارتياح  ، بعضهم اخذني في حضنه بسعاده ،قائلين .. هسة انت  سوري بشكل رسمي .

اشتروا لي بعض السندويج وزجاجة من شراب البيبسي . وفي اليوم التالي ، سفروني على اساس ،انا سوري الجنسية ، ودخلت الى العراق بسلام . فأية مفارقة وأية مأسات .

 العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com