الاستبداد والإرهاب

نضال نعيسة

sami3x2000@yahoo.com

الاستبداد حاضن للإرهاب، ومنتج، ومصدر له، والمجتمعات التي تعيش على الخوف، لا بد سيقتلها العنف. ولكي يحمي الاستبداد نفسه، وبدافع الخوف الكبير، ربما أكبر من ذاك الذي يحاول أن يلحقه بضحاياه، يلجأ عادة، لأبشع، وأشد أنواع العنف، وأكثرها دموية، وفتكاً، لإحداث تلك الحالة المأمولة من الهجوع الدائم، والاستكانة، وعدم الحراك في صفوف "أعدائه المفترضين" في الداخل. إلا أن نفس تلك القوة الباطشة الغاشمة، والهائلة، التي ترفض أي نوع من المصالحة والحوار، والاعتراف بأي من مكونات المجتمع المختلفة، تتحول فجأة، إلى نوع من الوداعة، والمهادنة، والاستكانة مع الخارج. كما أنه لا عجب أن نرى أن معظم تلك المجتمعات التي تعاني استبداداً بشكل ما، و اضطهاداً، وخنقاً لكل أشكال التعبير، وحرية الكلام، وممارسة العمل السياسي، هي التي مازالت تمارس نمطاً بدائيا من أنظمة الحكم القائم كلياً على إلغاء ممنهج للسواد الأعظم من الناس، واحتكاراً موغلاً في تطرفه للثروة والقرار. ولقد أحدثت مذبحة الحادي عشر من سبتمبر هزة عنيفة، وصدمة كبيرة في أوساط النخب السياسية الغربية المختلفة، التي اطمأنت إلى قابلية استمرار أوضاع الأنظمة إلى الأبد، على نفس الشاكلة التي عمدت على تأييدها، ورعايتها، بل وحمايتها، والتغطية عليها في كثير من الأحيان، حين تبدى لها أن معظم من قام بتلك الفعلة الجبانة الشنعاء، هم من بلدان يحكمها الاستبداد. وأن ذاك الهدوء التاريخي البادي على السطح(القمع الذي يفسره الاستبداديون بالأمن)، يقابله جيشان كامن تحت السطح، ويمهد لعوامل انفجارات رهيبة محتملة. وقد أظهرت الملاحقات، والمطاردات الأمنية التي أعقبت ذاك الحادث المشؤوم، ومفاعيلها، أن معظم رموز الإرهاب العالمي الحاليين أتوا من دول يعشش فيها الاستبداد، والطغيان.
إن انعدام حرية التعبير والكلام تدفع الإنسان إلى البحث عن بدائل أخرى لإثبات الذات، والتعبير عن النفس. وفي مجتمعات تفتقر لادنى ثقافة وممارسة ديمقراطية، يصبح الإقصاء المتبادل هو الخيار الأخطر، وهو في نفس الوقت، السبيل الأرقى للتعبير عما يجول في مكنونات النفوس التي أدمنت المذلة، والخضوع، والخنوع، والتبعية العمياء، والهوان. وفي ظل الاستبداد، أيضاً، يصبح العمل، و"البروظة" السياسية حكراً على طبقة بشرية بعينها هي مرجع الزمان الوحيد في كافة العلوم، والفنون، والاختصاصات. طبقة مؤلهة، ومعصومة، ولا تقبل أن يشاركها أحد ما بهذه الوكالة السياسية الحصرية، والتفويض الأبدي الذي حصلت عليه بفعل شرعيات تآكلت، وهوت، واضمحلت بفعل التجارب الفاشلة، وعامل الزمان، الذي يأتي حتى على الحديد، والصخر والفولاذ.
كما لم يفلح الاستبداد، وعبر تراث طويل من ممارسة الطغيان، سوى في استنباط مجتمعات عنيدة، عصية على الطاعة، مجذومة، برصاء، ضعيفة ومفككة، وحاملة لكل أسباب الانفجار، يصعب التحكم فيها على الدوام. فيما كانت النية المبيتة، والرغبة الجامحة لتلك الممارسات هي إنتاج مجتمعات كامنة، هاجعة، مدجّنة، وسهلة القياد. كما خلقت حالة القمع المستمر، والرقابة المستديمة، ومنع كافة أشكال التعبير السلمي والديمقراطي الصحي على السطح، إلى اتجاه الكثير من الكتل السياسية الممنوعة من الممارسة والنشاط الظاهر، إلى الخفاء وباطن الأرض، وإلى العالم السفلي السياسي الراقد تحت السطح، لتجد هناك بعضاً من الحرية المفقودة تجد من خلاله ذاتها المسلوبة بفعل الاستبداد، تلك الممارسة المستحيلة بشكل شرعي، وقانوني على السطح. وقد خلق هذا الوضع الجديد فراغاً سياسياً ملحوظاً على السطح، تجلى بعزوف عام مقرون بالخوف عن العمل السياسي، ساعد على سد تلك الفجوة، وعلى مبدأ سد الفراغ والأواني المستطرقة، جماعات غير محددة المعالم من الراغبين بالعمل السياسي، بما فيه تلك الجماعات المنفلتة ذات التفكير السياسي البدائي البسيط التي تؤمن بالعنف لتحقيق غاياتها وأهدافها السياسية، والتي سيكون لها، كما سنرى، الدور الأكبر، تاليا،ً على الأرض. وقد ساعدت ثورة الاتصالات وتدفق المعلومات على ازدهار ونمو الكثير من النشاطات التي كان من الممكن التحكم بها في غابر الزمان. والطامة الكبرى، والآفة العظمى أن الاستبداد، وبسبب من جهله، وصلفه، وغروره، لم يع هذه الحقائق البسيطة الماثلة بالذات.
وبسبب التجهيل، ومنع تشكل وعي مجتمعي، ومعرفي مقصود، كرسته سياسة الاستبداد فقد سادت ثقافة تسطيحية تبسيطية نفذت إليها جماعات عنيفة منفلتة، وخارجة عن القانون، تؤمن بجدوى العنف، والإرهاب، وليس لديها أية آفاق سياسية، أو تصورات ذات قيمة، أو تتحلى بأي فكر حداثوي، ورؤى عصرية يمكن التعويل عليها. وقد حاولت التعبير عن ذاتها، مستشرفة، ومستغلة جزئيات مستقطعة من ثقافة سائدة لتعبئة رأي عام داعم لها في أوساط العامة والرعاع الذين يشكلون غالبيات عظمى في مجتمعات الاستبداد. وقد أفلحت إلى حد ما في هذه اللعبة عبر "تجيير"، وتوجيه كل تلك المشاعر الكامنة ضد الاستبداد لمصالحها السياسية الخاصة، واستطاعت أيضاً أن تستقطب بذلك شرائح واسعة في الشارع العام الجاهز، والمخدر على التوازي بثقافة الغيب، والتعويل على السماء في حل كافة المشاكل الأرضية العالقة، والمستعصية.
وتكمن الخطورة الكبرى في ازدياد ونمو هذا الاتجاه، والميل الإرهابي والعنفي في مجتمعات الاستبداد التي تغذيه ثقافة وحيدة، وأحادية، مسموح بتداولها رسمياً، وعلناً، في السوق السياسية في هذه الأصقاع، إلا أن مواسم الحصاد السياسي أعطت "محاصيل" مرّة، ومسمومة، وملغومة غير قابلة للهضم، والاستهلاك البشري العام. وهكذا أصبح من العسير، والاستحالة بمكان دراسة، والتحكم بـ، ومعرفة أسرار ، وتشعبات ، أو القدرة على الوصول إلى، أو تفكيك كل تلك الجماعات، والخلايا النائمة تحت السطح، التي تنتظر إماءة ما، أو رسالة مشفرة عبر تلفاز، أو شريط مصور تبثه كسهرة للتسلية في أوقات الفراغ تلك الفضائيات التي تعج بها السماء. والجانب الأسوأ ربما، من هذا وذاك، فقد خلق انتعاش هذا الجانب من العمل السياسي العنفي السلبي حالة من الانكماش، والنكوص وسط شرائح وطبقات وتيارات سياسية أخرى، أكثر رقياً ووعياً وعصرنة من تلك، مخافة أن تؤخذ بجرائرها، ويُتهم أعضاؤها بنفس تلك التهم التي أصبحت جاهزة ومعلبة، والتي غالباً ما توجه للجماعات التي اتخذت من العنف والإرهاب وسيلة للاحتجاج والتعبير السياسي. وكل هذا عملياً، وبالتالي، يعني تعطيلاً للحياة السياسية الصحية التي تقي الجميع من الوقوع في شراك التدمير الممنهج للمجتمعات.
حدث، ويحدث كل هذا في ظل غلو، واستشراء سرطان الاستبداد الممعن في غروره، واستعلائه وغيّه، وغياب مستمر ومتعمد لكافة أشكال التعبير وحرية الكلام. إن الحياة السياسية الصحية التي تهذب، وتنظم، وتحصر كل النشاطات السياسية في أطر تسهل مراقبتها والتحكم بها، هي وحدها التي تضمن بقاء المجتمع ضمن ذاك السياق المسالم البعيد عن الانحدار في الخيارات الدموية والسلبية المدمرة، وتحمي الجميع من الانقراض والزوال، بما فيهم المستبدون أنفسهم. كما أن تعبئة فعاليات المجتمعية المختلفة وفق تنظيمات سياسية، وحزبية قانونية، وشرعية، هي التي تكفل عدم انجرار المجتمع إلى تلك المنزلقات الخطرة من فوضى التنظيم والتعبير المنفلتة ، البعيدة عن الرقابة، والمتمثلة بآفة الإرهاب الخطير.

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com