حوار أم انتحار؟ حوار مع الأعسم حول الحوار

حمزة الجواهري

hjawahri@yahoo.com

لقد استفزني جدا مقال نشر أمس للأخ العزيز عبد المنعم الأعسم بعنوان " الحوار مع ‏المسلحين..بهدوء" ، الذي وضعنا بصف الأزارقة، بشكل غير مباشر، حين رفضنا المفاوضات الجارية ‏مع الإرهابيين حاليا، وإن كان التحليل الذي وضعه ينم عن حيرة من كاتب لم يعرف الحيرة يوما ما في مواقفه، لكن ‏مع ذلك سألجأ لما نقله أستاذي الأعسم من كلام مفيد عن أخينا أفلاطون بقوله " مجانين ‏إن لم نستطع أن نفكّر، ومتعصبون إذا لم نردْ أن نفكر، وعبيد إذا لم نجرؤ أن ‏نفكّر"، وهذه حقا دعوة فيها إنصاف لمن يريد التفكير، لذا أدعوا العزيز الأعسم لكي يفكر معي أيضا، لأنه اعتمد على حسن النوايا في تحليله لعلي ‏أصل معه إلى فكرة غائبة عن ذهني فيرشدني إليها، أو أن يتراجع عن التصنيف الغير مباشر ‏الذي وضعه. لكن قبل أن ندخل في صلب الموضوع، لابد من الإشارة إلى أننا ‏نثق بالعم جلال ونكن له أصدق معاني الحب والاحترام، كما ‏ونثق أيضا أن مشروع أمريكا الكبير في الشرق الأوسط الكبير هو المساهمة ‏بإقامة نظام ديمقراطي في العراق يكون مثلا يحتذي به الجميع.‏

لقد كان حديث المسؤول العراقي، أو المتحدث الرسمي باسم السيد الرئيس، من خلال الفضائية العراقية صريحا وواضحا أن ليس هناك مناصب لمن يتحاور ‏معهم رئيس الجمهورية، الهدف كما كان واضحا من كلامه أيضا هو إلقاء ‏السلاح فقط والانخراط في العملية السياسية! وهذا ما يثير الكثير من التساؤلات ‏والشكوك بمدى صدقية هذا الكلام، فإذا كان الحديث يتمحور فقط على مسألة ‏إلقاء السلاح، فما الداعي لهذه المفاوضات العسيرة؟ حيث يمكنهم إلقاء السلاح وحسب، لكن مادام هناك محادثات، لابد أن يكون هناك مطالب مقابل إلقاء السلاح، ومادامت المحادثات تدور في غرف معتمة بلا أبواب ولا شبابيك، لم يبقى أمامنا سوى التفكير بمضامينها، وكما أسلفت سأبذل قصارى جهدي بالتفكير كي لا يتهمني أخي العزيز عبد المنعم بالتقصير، فما هي المطالب التي نتوقعها من جانب الإرهابيين:‏

أولا: أول الأهداف التي وردت بذهني هو منع القوات العراقية والأمريكية من مداهمة البيوت بحثا عن ‏الإرهابيين، أي مداهمة أوكارهم المشتبه بها، لأن لا يمكن أن نتصور أنها تسكن هذه المليشيات في القمر، أي لابد لها ‏من مكان آمن تكمن به وتنطلق منه وتفخخ به سياراتها وتصنع عبواتها ‏الناسفة، كما ولا يمكن الجزم أن العناصر التي تتباحث مع الحكومة ليس لها ‏علاقة بتلك الجماعات التي تضرب يمينا ويسارا لكل ما هو متحرك وجامد، ‏وليس من المعقول أن نتوقع من هذه الجماعات التائبة، أو المستعدة للتوبة، أن ‏ترشد الحكومة عن أماكن تواجد تلك التي مازالت مصرة على الاستمرار بحمل السلاح، ‏هكذا تقربا لوجه الله تعالى؟! فهل يعقل هذا؟ هذا إذا لم ‏تكن هي نفسها التي تضرب، لم لا؟ لأننا في كل لحظة نواجه سؤال لا جواب له مضمونه: من هو المستعد للتوبة وإلقاء السلاح؟ ومن ‏هو المصر على استمرار العمل المسلح؟ لا أحد يستطيع التفريق بينهم لأنهم جميعا أشباح. ‏باختصار ربما يكون الهدف منها هو وقف المداهمات للبحث عن الإرهابيين ‏وربط الحكومة بتعهدات تشل القانون والقضاء وأداء الأجهزة الأمنية بالكامل ‏وبالتالي توفير الغطاء الآمن للعناصر المسلحة من قبل الحكومة والأمريكان لكي تستمر في العمل بحرية تامة.‏

ثانيا: ربما يتفاوضون من أجل مناصب سيادية مؤثرة في الدولة، لكن هذا ‏الأمر قد نفاه المتحدث الرسمي باسم مام جلال، حتى ليخال المرء أن رحمة من ‏السماء قد تنزلت على قلوب هؤلاء القتلة، هكذا فجأة!! كيف يمكن التصور أن مثل هؤلاء زاهد بالسلطة إلى هذا الحد؟! ‏وهم المستميتون عليها!!!!!‏

ثالثا: أما إذا كان هدفها هو إطلاق سراح المعتقلين من أعضاءها، فهي بلا أدنى ‏شك مناورة مكشوفة المقاصد، لأن العدد الذي وصل له المعتقلون هو ستة ‏عشرين ألف مسلح، نصفها لدى قوات المتعددة الجنسية ونصفها الثاني لدى ‏الوزارات الأمنية العراقية، وهذا العدد يفوق التقديرات التي وضعت للعناصر ‏المسلحة في السابق، لذا فهم على وشك الوصول إلى خط النهاية المحتومة، ونجد بالفعل أن نشاطهم قد تقلص حاليا وقد اقتصر على بضع تفجيرات للعبوات أو السيارات أو الانتحار بأحزمة ناسفة، وإن إطلاق سراح المعتقلين ‏سوف يعيد العراق للمربع الأول وبعث الحياة من جديد في إرهاب نشيط ومتمكن. ‏

رابعا: المال ربما يكون الهدف من المفوضات، لأن كما قلنا لو لم يكن لديهم ‏أهداف محددة لألقوا السلاح وانصرفوا إلى أعمال شريفة من دون مفاوضات، إذا ‏قد يكون المال هو ما تطمح إليه هذه الجماعات، فمن الذي يستطيع أن يضمن ‏أنهم يخدعون الحكومة مقابل ضمانات وهمية أو كلمة شرف، وهم بذات الوقت ‏أشباح لا هوية محددة لهم، أما من ناحية الشرف فحدث ولا حرج. فهل ستقع ‏الحكومة كما وقعت سابقا في فخ أحد السياسيين المنخرطين بالعملية السياسية ومنحته الملايين من أجل حماية ‏أنابيب النفط؟ فإذا كان هذا الرجل عضوا في البرلمان وفعل ما فعل، فما الذي سيفعله أشباح لا أحد يستطيع أن يرى ‏لهم ظلا؟!‏

خامسا: قد يكون الهدف هو منحهم الأمان وعدم معاقبتهم على ما اقترفوه من ‏جرائم خلال النظام السابق أو بعد السقوط، لنفترض أعطتهم الحكومة الأمان، ‏فمن الذي سيحميهم من أهالي الضحايا؟! وكيف نقبل مثل هذه النظرية ونحن ‏نعرف أنهم ما رفعوا السلاح إلا من أجل تحقيق أهداف معينة؟

سادسا: إذا كان السبب في التفاوض هو تحديد جدول زمني لخروج القوات ‏الأمريكية من العراق كما يدعون دائما، فالجدول قد أعلن عنه الوزير العراقي ولا يمكن إعطاء ‏جدولا آخر غير هذا، لسبب بسيط جدا، هو أن هذه العناصر المسلحة سوف تعبئ ‏نفسها لما بعد الانسحاب وتنقض هي ومن يساعدها من الخارج على أهداف ‏محددة مرسومة بهدوء. وهذه أيضا مناورة مكشوفة المقاصد ولا يمكن القبول ‏بها من مجرمين، ولا يمكن للعراقي أن يمنحهم أية ثقة مهما كان نوعها.‏

هذا من جانب المسلحين بدخولهم المفاوضات، أما من جانب أمريكا والحكومة ‏العراقية لنحاول أن نبحث في الأسباب بصراحة متناهية، لأن الصراحة والشفافية ‏من أهم سمات المجتمع الديمقراطي:‏

أولا: إذا كانت الحكومة تعتبر أن من واجبها هو التقرب للمسلحين والتحاور ‏معهم لإلقاء السلاح واضعة بحسابها كل تلك المخاطر الذي مر ذكرها والتي ‏يترتب عليها مثل هذا الحوار، فإن الحكومة كأنها تبحث عن المستحيل في ‏المجرات البعيدة عن الأرض، أو أنها تريد أن تخدع نفسها والناس بصناعة المستحيل!‏

ثانيا: إذا كان هدف الأمريكان والحكومة، وهنا بيت القصيد، هو إخافة بعض الأطراف السياسية العراقية وأن التفاوض مع هذه العصابات يجبر هذه الأحزاب على التنازل ولو ‏قليلا عن بعض مواقفها المتشددة اتجاه البعث وما إلى ذلك من شعارات وبرامج ‏سياسية تخيف أبناء الضفة الأخرى للوطن، فإني أقول أن هذه المفاوضات لها ‏أثارها السلبية المدمرة على مستقبل العراق وسوف تستفيد منها هذه الأطراف أكثر من أي جهة أخرى في العراق. لقد أوضحت هذا الأمر في أكثر من ‏مقالة سابقة، وهو أن السبب الرئيسي في التمترس الطائفي أو العرقي هو الخوف من تلك المشاريع السياسية التي تخيف أشقاء الوطن وترعبهم حد الموت، منها على سبيل المثال وليس الحصر مشروع إعادة تشكيل الجيش والقوات المسلحة القديمة التي تخيف ثلثي الشعب العراقي، فكيف لا يتمترس هؤلاء الخائفون وراء من يرفع شعارات ترفض قطعا العودة لتشكيل هذه القوات؟ لذا أقولها مرة أخرى أن سبب ‏هزيمة التيار العلماني في الانتخابات الأخيرة هو تبني مثل هذه الأهداف، ‏أي كما "جنت على أهلها براقش". وإذا اعتبرنا إجراء هذه المفاوضات ورقة تخويف لكتلة سياسية معينة، فإن هذا يعني مزيدا من المتمرس ومزيدا من ‏التشرذم الوطني ومزيدا من التصلب من قبل الأحزاب المتشددة، لأنها تخدم مصالحهم بمزيد من ‏التمترس الطائفي والعرقي، وهذا ما يعتبروه منتهى النجاح. هذا الأمر صحيح بالنسبة لكل الذين يمارسون اللعبة الطائفية أو العرقية كما أسلفت. إذا بكل بساطة على ‏الرئاسة وأمريكا أن تنزع فتيل الأزمة بنزع المشاريع الطائفية وكل أسباب الخوف من ‏أبناء الضفاف المتعددة للوطن، وإن لغة التهديد تزيد من حدة التمترس الطائفي والعرقي وهذا أمر أثبتته الأحداث.‏

إن ما حققته الحكومة والأمريكان والشعب بصموده لحد الآن في الحرب على الإرهاب في العراق ‏كبير جدا، والإرهابيون في ضائقة لا يحسدون عليها، وإن الدعم ينحسر عنهم، و‏الجزع قد بلغ أوجه عند من يؤويهم، وإن سلاحهم بدأ ‏ينفذ، وليس أدل على ذلك من محاولتهم شراء السلاح من الخارج وبتمويل ‏خارجي، وإن الأرض التي يعملون عليها تضيق، فليس أمامنا سوى ‏الاستمرار بالضرب على أيديهم وإن طال الزمن ولو قليلا، فإن من صبر ‏كل تلك العقود العجاف يستطيع الصبر بضعة أيام أخرى.‏ هذا هو الكلام المفيد، ""والفضل يعود للعم افلاطون"".

 

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com