الاستخفاف بالداخل

نضال نعيسة

sami3x2000@yahoo.com

تدل كثير من الممارسات البطشاء، والتصرفات الطائشة الرعناء، التي تقوم بها بعض الأنظمة القمعية، هنا وهناك، وتتبناها كخيار استراتيجي، ووحيد في مواجهة كل ما يعتريها من مشكلات، وأزمات، على استهتار لافت بأبسط القيم، والمعايير، والمثل، والقوانين السياسية، والاجتماعية وحتى الطبيعية، والفيزيائية منها التي تسيّر وتتحكم بهذا الكون، والحياة، بشكل عام. بل تؤكد في الواقع، على استخفاف كبير بمدى ما للواقع المحلي من قوة كبيرة، بغض النظر عما تتمتع به بالمقابل، أجهزة البطش من قوة قمعية غاشمة عمياء منفلتة، لا يمكن تجاهلها. إنه الاستخفاف، وبمدلولات أكثر شمولية، بالداخل الوطني بكافة حمولاته المجتمعية، والمعرفية، والسياسية.
كما تصب كل سياسات "إستدارة" الظهر، و"الدوس" على كل ما هو متعارف عليه من أخلاق، ومبادئ، وتلك العنجهية والغطرسة السلطوية، والتصريحات غير الواقعية، والاستفزازية أحياناً، والتنكر لكافة المطالب السياسية العادلة، والاستئثار بالسلطة، والمال، والقرار، وأعمال المطاردات، والملاحقات، والسجن، والاعتقال، والإلغاء، وإفقار الشعوب، ونهبها، والتنكيل بها، وكم الأفواه، وتهميش جميع القوى الاجتماعية والسياسية المختلفة، بمكوناتها المتعددة، ورفض فتح، أو إقامة أي نوع من الحوار، أو حياة سياسية صحية، قد تعيد لوحدها، شيئا من التوازن المفقود، لهذا الوضع المختل، نقول تصب كلها في هذا الإطار من الاستخفاف، والتوجه السلطوي الغريب، بكل ما يحمله هذا السلوك من أخطار محتملة على مستقبل هذه الأوطان، التي بدأت تشهد مظاهر هزال وطني كبير وضعضعة، قد تهدد في مراحل لاحقة، وحدة وبقاء الكثير منها. كما ظهرت أعراض أمراض سياسية، واجتماعية خطيرة، تتجلى بالدرجة الأولى، بذاك الكم الهائل من الاستبداد، الذي يقابله ميل ونزوع كبيرين نحو التطرف والعنف والفوضى والإرهاب، ودخول قوى خارجية على هذا الخط، عبر استغلال غير بريء البتة، لتلك الأوضاع الشاذة، للنفاذ إلى ضمير الشوارع المحلية، والتلاعب سياسياً بعواطفها ودغدغتها "تغييرياً"، ومحاولة تبني خطابها، لتلقى ذاك التأييد والدعم المعنوي المقبول في أوساط العامة.
ولقد أدى الاستئثار الكلي بالسلطة، وغياب آلية رقابية وديمقراطية توجه عمل هذه الأنظمة إلى ارتكاب "مسلسلات" متتالية، من الأخطاء الفادحة، ووالقراءات الخاطئة والقاتلة التي عصفت، كما رأينا، بواحد من أكثرها دموية، وبطشاً، وفتكاً، ونعني به طبعاً، النظام العراقي البائد، الذي كان يرفض أي نوع من المشاركة بالقرار، ويرفض الانصياع لأية مطالب محلية، أو إقليمية، أو الإذعان لأي توجه من توجهات الرأي العام، أو الاستماع لأي رأي، أو صوت وطني، بل رفضاً استكبارياً كاذباً بوجود أي نوع من المعارضة لسياساته "الحكيمة" والرشيدة. وفي الوقت الذي كانت تتجمع فيه كل تلك القوى السياسية، والاجتماعية المهمّشة في "معارضات" مختلفة داخلياً، وخارجياً، محدثة ذاك الكم الهائل من الرأي العام الضاغط، الذي جعل من مسألة سقوط ذاك النظام أمر حتمي، وتلقائي، في قادم الأيام، كان ذاك النظام الدموي النهبوي يضع "الطماشات" على عينيه، والمخمدات الصوتية على أدنيه، لكي لا يسمع شيئاً من ذاك "الضجيج" المعارض برغم صخبه العالي والكبير. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على ذلك الاستخفاف الكبير والغبي بقوة الداخل، في الوقت الذي كان يستجدي صغار المبعوثين والموفدين للصفح عنه، وعودته للحظيرة التي خرج منها بفعل جنون العظمة، والاستعلاء، والاستخفاف تلك.
ومن هنا نشأت معادلات إقليمية تزداد رسوخاً بشكل مضطرد وأهمها هو: "كلما ازداد الاستخفاف والاستهتار بالداخل، وانتهاك حرماته، وبالتالي إضعافه، وإنهاكه، كلما ازداد الإذعان للخارج، والاستعداد لتقديم التنازلات والمساومات".
في العادة والعرف، يستمد أي نظام حكم في العالم قوته، وشرعيته، واستمرار يته من خلال جبهته الداخلية، ووحدته الوطنية، التي تشكل موانع صد ذاتية لاحتمالات السقوط المدوي المفاجئ، والأفول والانقراض. ولا يمكن لأي نظام، ومهما بلغت به القوة، والصلف، والغرور، من الاستمرار بدون تلك القوة الداخلية المتماسكة التي تقويه، وتشد من أزره. كما يشكل ذاك التفاهم، والتناغم والتناسق الوطني على العام والخاص، بين نظام الحكم وشعبه، كما على الأسس والمبادئ الوطنية، والمشاركة في صنع وتنفيذ القرار، وسبل إدارة البلاد، عوامل بارزة في تجنب أية صراعات، أو احتمالات انفجارات داخلية قد لا يمكن التحكم بها، ولا يحمد عقباها. كما يشكل الاحتكام للحوار، وإدارة الأزمات تحت قبة البرلمانات المنتخبة، وبطرق ديمقراطية أخرى، عوامل تهدئة وتسكين في زمن الأزمات والمنعطفات. وما يصنع قوة أي بلد من البلدان هو بمقدار ما ينجزه من تفاهمات، ووفاقات، وصيغ تهدئة سياسية أخرى قائمة على أسس دستورية وتشاركية، إضافة طبعاً إلى المشاريع التنموية، والاقتصادية التي تعود بالنفع على الداخل، وليس على ما يقوم به من بطش، وقمع، واستهتار. ولقد شهدت جميع الأنظمة التي اتخذت من هذه الخيارات البدائية عمليات سقوط دراماتيكية ومثيرة قاسية، وخلال لحظات، وهزات بسيطة، وهي التي ظنت، وللحظة، ووهلة غافلة عن المنطق، والزمان أنها باقية إلى الأبد، فيما استمرت، وبقوة، تلك الأنظمة التي التزمت الخيارات الشعبية والوطنية والديمقراطية.
كل ذاك الاحتدام، والصراع البادي، والمساجلات الأمنية الرهيبة، والشد والجذب، ليس دليل عافية سياسية، وصحة وطنية، على الإطلاق، وما هي في الواقع سوى دليل على ذاك الخلل النوعي الخطير في العلاقة بين أنظمة الحكم وشعوبها، وضعف في الهيكل العام، وكل هذا متأت حكماً، من سياسة الاستخفاف بالداخل وتجريده من كافة حقوقه، وعوامل وجوده، وأسباب قوته.
لاشك هنا، أن جميع الأنظمة التي تعامل شعوبها بتلك الطريقة الفجة من الاستعلاء، والتجاهل، والإنكار، تقتفي أثر كل تلك الطغم الشريرة البائدة والفاسدة التي حفرت بغبائها السياسي، وتبلد ذهنية أصحابها، قبورها بأيديها الآثمة المدماة، وكان مصيرها إلى الزوال، والفناء، ولم تخلف وراءها سوى الشماتة، والتشفي، والازدراء، والكثير من "البصاق"، والسباب، واللعنات.

 

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com