لم تعد الأفكار النهضوية، والحداثوية، أو بأضعف الإيمان الوطنية، تحكم المشهد السياسي، في أي من هذه الأصقاع المترامية، الأطراف والتي لا يجمع بينها جامع على الإطلاق، والتي تعيش على الغيب السياسي، وتتحكم بها الأقدار الدولية، وتستمر على المهدئات. بل صارت العودة لمتاحف التاريخ القديم، لنبش أنماط حكم سياسية بائدة ومنقرضة، عفا عليها الزمان، هي الخيار الأمثل لحل رزمة المشاكل، والأزمات، والمعضلات التي فرّختها تلك النخب الحاكمة التي وضعت المصالح الشخصية، وعبر خيارات كومبرادورية سياسية أيضا، تضمن لها البقاء، فوق أي اعتبار. خيارت تبسيطية، تسطيحية، عائمة تجد، وبكل أسف من يؤازرها من شرائح، ونخب تتطلع للعب أي دور سياسي، حتى ولو كان لعباً، بمصير أوطان، وشعوب بأكملها.
فلقد شهدنا شبه غياب مدهش للمفاهيم الوطنية، والتحررية، الديمقراطية، لتحل محلها تلك التقسيمات العرقية، والطائفية، والإثنية، وأصبحت خيارات الكانتونات، والغيتوهات الثقافية، والفكرية المعزولة، التي لا تصب في أطر وطنية هي بدائل محتملة، ومقدمة على ما عداها، لكل ما كان مطروح سابقا، بكل ما في ذلك من احتمالات تقسيمية وتفتيتية ومخاطر جدية على بقاء الكثير من هذه البلدان، ولاسيما بعد فشل كل المشاريع القومية الكبرى، والسقوط المريع، والمشين للشعارات العريضة، بفعل ممارسات الاستبداد، والتي افتتحت بها تلك الأنظمة عهودها الوطنية، بعد أفول عصر ما كان يسمى بالاستعمار الكولونيالي الغربي، الذي نرى من بات، فعلاً، يترحم عليه، وعلى أيامه الماضية، أمام ما يراه من مخاطر تفتيتية جدية، وبوادر انفجارات طائفية، وعرقية في غير مكان. وبالفعل، كان ذلك "العامل الاستعماري"، عاملاً توحيدياً وطنياً التفت حول ضرورة التصدي له جميع المكونات العرقية، والسياسية، والطائفية، والاجتماعية. فيما أضحى ما سمي بـ "الأنظمة الوطنية" التالية، والتي وصلت الحكم بطرق شتى غير ديمقراطية بمجملها، عوامل افتراق، وخلافات جذرية قلما تجد من يدعمها، ويلتف حولها، ويؤازرها، اللهم شلة تلك الطبقة المتورمة التي تمثل المصالح والمنافع.
ولكي لا نخصص، حيث أن هذه الظاهرة قد باتت تشكل تياراً عاماً وبارزاً في غير مكان من هذه الأصقاع التي تحفل بشتى المتناقضات العميقة. ففي هذا المحيط العريض الذي يغلي كبركان مهدد بالانفجار، وبفعل سياسات الإقصاء، والاستبداد، والاستئثار بالثروة، والقرار، نمت طبقات، وشرائح اجتماعية، وسياسية مختلفة ومن كافة ألوان الطيف الوطني، بعيدة عن المشاركة عن دائرة القرار، ومهمّشة كلياً، ولم تجد لها أية وسيلة، لممارسة أي نوع من التعبير، أو إثبات الذات، أو الإستفادة من ثروة الأوطان. ونظراً لغياب التحليل العلمي، والموضوعي، والمنطقي لبنية الاستبداد، وربطه بتبريرات ومسوغات بعيدة عن بنيته الحقيقية، تلك البنية التي لا تميز بين مكون اجتماعي وسياسي آخر، ولا تفضل لوناً على آخر غلا بمقدار ما يبديه من خضوع، وتبعية، وإذعان. كما أن افتقار تلك المجموعات البشرية المختلفة لوعي سياسي، وبنية معرفية دقيقة، تضع الظواهر السياسية والاجتماعية في سياقها الصحيح، ويحلل أبعاد، وآفاق هذا الاستبداد المقيت بوجهه الحقيقي، البعيد كلياً عن وصمه بفئة، أو طائفة، أو عرق، أو قومية. فقد نما اتجاه عام، ومن قبل "جماعات واعية" هذه المرة لخيوط اللعبة، وذات طموحات سياسية، وسلطوية معينة، لاستغلال مظاهر الاستبداد تلك، وأخطائه القاتلة، وعزوها لأسباب خارجة عن جوهر الاستبداد ذاته لتلصقه بهه، وتبرره من خلالها، ولكن لا علاقة لها، من حيث المبدأ، بكل ما يحدث على الأرض من ممارسات في منتهى التطرف والسلبية.
ومن هنا نشأت تكتلات، وأحلاف، ومحاور, تنظيمات لا يمكن أن توصف عادة بالعدالة في نظرتها لما هو قائم على الإطلاق، تبرر سبب اضطهادها، وإبعادها عن دائرة الفعل والقرار لمجرد الانتماء ، والاصطفاف الطبيعي هنا، وهناك. ونحت إلى تبرير فعل الاستبداد، ووسمه بكل تلك الأوصاف، لمجرد كونه من هذا الطيف أو اللون الاجتماعي أو العرقي، أو الديني. ولقد وجدت هذه النخب السياسية التي لعبت على هذه الأوتار، وبكل أسف، من يردد هذا الخطاب البدائي، الموغل في أميته السياسية، بين مجموعة من الكتاب، وأشباه المثقفين، الراغبين باستغلال تلك التناقضات، والصراعات، السياسية، وتجييرها لمنافع فئوية، وذاتية، تفتيتية تضعف فعلاً من قوة تماسك المجتمع، وتساهم في تفككه إلى شراذم لونية مختلفة، بعيدة عن الحس الوطني الحقيقي والعام، ناهيك عن التأثير الطاغي، التلقائي، والمقبول، لهذا الخطاب، بين شرائح العامة، والدهماء التي يسري فيها هذا النوع من الخطاب مسرى النار في الهشيم اليباس.
إن هذا المكر، والدهاء السياسي، من قبل البعض، وعبر تلك العملية التسطيحية، والتبسيطية، والإيجاز المُغفّل من حيث النظرة لبنية الاستبداد هذا الداء السرطاني القاتل الذي استشرى في غفلة من الأنام، وعاني منه الجميع بلا استثناء، وبكل ما يحمل (المكر) من مخاطر جدية، يجب ألا يكون على الإطلاق فسحة لأي كان لاستغلاله، واللعب من خلاله بمصير البلاد والعباد لتحقيق منافع سياسية ضيقة، ذاتية، وآنية، قد تعود عليه بريعية، ونفعية ما على المدى القصير، إلا أنها ستصبح عبئاً، بل وكارثة تقوض أهم عامل في بقاء الأوطان، وهو التشرذم، والتفتيت، والانقسامات.