|
سناءُ الانصار.. سنوات ازدحمت بالمجد ( 2 ) مزهر بن مدلول أُمي، اكثرُ صمتاً مني.. دموعُها تَرى.. آهاتُها، كلماتُ وداع.. لها رحيقُ زهرة.. اخذتْ رأسي الى صدرِها.. فأمتلأت روحي بعطرها الأزلي، ثم حملتُ متاعبي، ورحلتُ. كيف لي أن أختزل الجبال.. لكي اصلُ إليها.. اصنعُ قيثارةً من الثلج.. وأعزُفُ هلهولةَ الحزنِ والموت.. فتلك الناصريةُ، أبديةُ الألم. تلك هي، خارطة الحنين، التي طوقت راسي، حين دخلتُ معركة [ قبر زاهر]، اشرسُ المعارك، واشدُّها نيرانا. وزاهر ذاك، كان مام، او شيخ عشيرة، وربما كان مقاتل. لاادري. لكني اجزم، بانه لم يمت هناك، بسبب بحثه عن اصل منابع البحر. فلماذا اختار زاهر ان يموت هناك ؟. ببساطة، إن لاحياة في ذلك المكان. وصلتُ، بعد رحلة قلق وخوف جبلية.. كانت انفاسي تتلاحق.. كنوز الاوهام تكاد تنضب.. السماء معفرة برائحة الحرائق.. هذا الذي يرفُّ.. فوق راسي، لايشبه اجنحة العصافير.. انها زعانف القذائف.. كائناتي، كلها مستعارة.. من جسد، ينام على حجر.. ويأكل، من زادِ بقايا قصائد. اندهشتُ، حين رايتُ، اولئك الانصار، وهم ينتشرون، في مساحات واسعة، لمجموعةٍ، من قممٍ متلاصقة. كانوا يجوبونها، ذهاباً واياباً، منهم من كان مسرعاً، اوراكضاً، ومنهم من كان، قد نالَ من هيكلهِ التعب، فبانَ بطيئاً واهنا. في الوادي، يتمركزالجيش، بكل ثقله وجبروته، واسلحته الفتاكة، وعتاده الكبير، انه ينوي احتلال القمة، مهما كان الثمن. لااعرف اسما اخرا لهذا الجبل، الا الاسم الذي اطلقناه نحن.. اي قبر زاهر، ويقع في اقصى نقطة من المثلث العراقي، الايراني،التركي. القتال الطويل فيه، انتحارا، والانسحاب منه، سيمر حتما عبر الاراضي التركية او الايرانية. ليس هناك من بقعةٍ، في ارض العراق قريبة، يمكن اللجوء اليها مباشرة. القمم، كانت خالية من الاشجار، وخالية كذلك من الصخور الكبيرة والمغارات، التي تقي اجسادنا، من الشظايا التي تناثرت في كل مكان. وتتعرضُ، الى منخفض جوي، يكاد يكون بشكل دائم. فالريح تهب، من كل زاوية، وايُّها. ومهما درْتُ،او تكورْتُ، اوحاولتُ، أن أجد طريقةً أواكتشفها، لكي اتجنب الريح، فهي فاشلة.انها تلاحقني، مهما فعلت. السيكارة، تتطلب وقتا كي تشتعل، اما اذا اردنا ان نعمل شايا، فذلك يستغرق ساعات. عند ذاك يكون الموت لامعنى له، فاهمية الشاي والتبغ عند الانصار، كاهمية السلاح والعتاد. الخيمة التى بنيناها، بجهد كبير، لاتصد الرياح القوية، اوتادها طارت مرات عديدة، وكنا نعتمد طريقة الوجبات السريعة في الاكل، طريقة علب السردين، والجاجي [ اي الجبن الذي له رائحة كريهة، والذي نسميه ال تي ان تي ]، وهي الأكلة، التي يرفضها اغلب الانصار. لم يكن لنا في ذلك الوقت، موقدا للنار، ندور حوله ونستمتع بتجمعنا الجميل، الذي نصنعه في اكثر الظروف قسوة. كل ذلك، وكان علينا، التصدي للجيش، ومنعه من الوصول الى القمة. ولكن لماذا ؟!.. اذا كان الجيش، قادرا ان يعسكر في الوادي لسنين، ونحن لانستطيع ان نبقى، الا لفترة وجيزة من الصيف. فلايمكن لاي بشر، ان يعيش هنا في الشتاء، ولا يمكن ان نبني فيه ملاجئا للبقاء. وعندما تغمر الثلوج المكان، فان جميع طرق الامدادات ستنقطع. لذلك كان امامنا خياران فقط، اما ان نهزم الجيش ونعود الى الوادي، وطبعا هذا امر محال، واما الانسحاب. وظننتُ ان خيار الانسحاب هو الارجح. ولكن علينا ان نجد متسعا من الوقت، لنبحث لنا عن ممرا داخل الاراضي الايرانية، يقودنا الى العراق مرة اخرى، وفي مكان اخر. لم انسى ابدا ذلك المشهد الرهيب، وتلك القسوة الهمجية، حين سقطت قذيفة في خيمة لخمسة من البيشمركة، الذين كانوا للتو، يتناولون طعام الغداء، فكانت اشلائهم تتطاير في الهواء، منثورة مع الخبز. ذهبت الى تلك الخيمة،وكانت قريبة من مكان مراباتنا، لكني لم اجد شيئا اتبينه. هولاء تحدوا الموت، واستعدوا له. لكني اعتقدت، بانه لم يكن ضروري، في تلك المعركة، لاننا كنا في جبهة حرب ولم نكن في حينها نخوض معركة انصارية، التي تختلف كليا في ممارستها. لذلك، رغم استمرار المعركة لتسعة ايام، ورغم شراستها، لم يكن في صفوفنا خسائر، نحن الانصار. خيمتنا، هي القاعدة الخلفية، التي نجتمع، وننام فيها، ومنها ننطلق الى مكان المراباة، الذي نواجه الجيش فيه. وكنتُ هناك طوال الايام التسعة، وكان معي صديقي النصير ملازم احسان، الذي كنت واياه دائما نتحدث، عن اشياء اخرى، لاعلاقة لها بالحرب. الوادي، الذي تُعسكرُ فيه، قوات الجيش، بعيدٌ،والصعود الشاق، للوصول الينا، يستغرق ساعتين، لذلك كانوا يرسلون مفارزا صغيرة، اكثر من ثلاث مرات في اليوم، فنشتبك معهم، ويتراجعون، وفي كل تراجع لهم يتحول الى كارثة علينا، حيث يمطروننا بقذائف الراجمات، التي تعدُّ بالمئات لكل دقيقة واحدة. حتى اننا عرفنا تلك الخطة، فاخذنا حين نتصدى لهم ويتراجعون، نركض ونبتعد، لمسافة عن المكان، ثم نعود بعد ان يتوقف القصف. ثم واجهتنا مشكلة الطيران العمودي، الذي يحلق، على مسافات بعيدة، ولايمكن التاثيرعليه بالرماية الكثيفة، من اسلحتنا الخفيفة. كان يحوم في سماء المنطقة، ونحن في مكان مكشوف، وليس امامنا، الا الالتصاق بالارض، للتخلص منه. علما باننا سررنا في اول الامر، حيث كان عندنا بعض صواريخ السيترلا، ولكن عندما حان وقت استخدامها، اكتشفنا انها لاتعمل، فكانت المفاجاة محزنة، وتملكتنا الحيرة في كيفية معالجة هجوم الطيران علينا. الجيش لم يكن في خطته التراجع، ويبدو كان مصرا على احتلال القمة، وهذا ماادركته القيادة حينها، فدعت الانصار الى اجتماع موسع، لاتخاذ قرارا بهذا الشان، ولم احضر ذلك الاجتماع بسبب وجودي في المراباة، لكني كنت اعلم به وتمنيت، ان يكون القرار هو الانسحاب، قبل ان تاتي شظيةٌ تحزُّعنقي. وهذه المرة، عبر اراضي ايران، الى الوطن ( دولي كوكا ) واكثر من عام ونصف هناك، كلها حروب من اجل البقاء. وتلك لمرات قادمة.
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |