ميشيل كيلو: طرق المحرمات

نضال نعيسة

sami3x2000@yahoo.com

أدرك تماماً حدود سوء الفهم، والتأويلات، التي ستترتب على كتابة هذه السطور، والسيد ميشيل كيلو في الأسر، وفك الله أسره، باعتبار أنه لم يعد لنا سوى الله لنلجأ إليه، لحل كل مشاكلنا، حتى السياسية منها، إلا أنه لا بدّ، مما ليس منه بدُّ. ولكنني، وفي الآن ذاته، لا أبرر اعتقاله بأية حال، وبالرغم من الجنوح الكبير، والتهور الفكري، والخروج عن أبسط المعايير الأخلاقية، التي تحكم العلاقات الاجتماعية بين الناس، في بلد فيه مكونات اجتماعية فسيفساءاتية تتعايش بكل أمن، وتفاهم، وسلام. ولكن أيضاً، لا يعقل أن توصم مجموعة بشرية ما، وأيا كانت، بهذا الكم الهائل من التخلف، والخشونة، والصفراوية، والفوضوية، وعدم الترتيب، ووضعها، وتنميطها، تلقائياً، في نسق واحد، وفي نفس القالب والمعيار، وإصدار حكم جماعي، بالإعدام الحضاري عليها، دون أن يحرك أحد ساكناً ما. فما بالك بسلطة، اعتادت ألا تتسامح مع أي نمط، من الخروج عن المسار المرسوم، أو أية محاولة لإيقاظ الفتن، واللعب بالنار. وأعتقد بأن المقال-الكارثة، ذاك، كان وراء اعتقال السيد كيلو، أكثر من إعلان بيروت- دمشق، الذي لا قيمة سياسية، أو معنوية له، ولا يشكل أي خطر، ولا يتعدى كونه مطالب عامة، بتنا نسمعها على "الطالعة والنازلة"، وحتى من فرقاء، وأطياف رسمية في هذا البلد أو ذاك. وما يؤكد هذا الكلام، هو وجود عشرات من الموقعين على هذا البيان "المعجزة"، داخل سوريا، وينعمون فيها بكامل الحرية، ومعظمهم، حتى الآن، في بيوتهم، وبين عائلاتهم، وخارج أسوار المعتقلات، وليس هناك من ريشة ما على رأس السيد كيلو، تتيح استضافته على شرف، ونفقة، أمن الدولة، تلك المكرمة المخابراتية، التي لا يتمتع بها سوى عتاولة الرجال.
وأعتقد، أن هذا المقال، يعتبر واحداً من أخطر الكتابات التي تزدري، وتحقّر، وتحطّ من شأن مكوّن اجتماعيً هام في سوريا، ويهدد الأمن، والسلامة الوطنية، ويحرّض على الفتنة، ويحث على الكراهية، فيما لو أخذ بحرفيته، التي لا تحتمل التأويل على الإطلاق، وتمت مقاربته من منظوره اللوني، الفاقع، الواضح الذي لا لبس فيه.
وكقارئ حيادي، يمكنني القول، بأن السيد كيلو قد تجاوز كل المحرمات، والخطوط الحمراء، وانغمس في ما لا يحمد عقباه، ونفخ في نار كامنة تحت الرماد، في فصل سياسي حار، بحاجة لكل المبردات، والمهدئات، ولا جدوى من إثارتها على الإطلاق. وعلى الرغم من محاولته الهزيلة، والفاشلة، في نهاية المقال، لترميم ذاك الشرخ، والأسى، والخراب الذي أحدثه المقال في نفوس الكثير من الحياديين، والعلمانيين من القراء الذين أصابتهم الدهشة، واعتراهم الذهول لهذا الإسفاف. لا أولئك الذين تلقفوه، فوراً، كوثيقة لإدانة تاريخية، واستهزاء، لا تقبل الجدال. وبدؤوا في التغني، والترحيب به، وتمجيده في الحال. والسؤال الهام، ماذا لو كان بين هؤلاء الريفيين، الخشنين الأجلاف البعيدين عن معايير الذوق، والفن، والترتيب، والميّالين للفوضى، متطرفون وغلاة، فعلاً، ولا يتقبلون أي مزاح، أو إساءة، ومن أي نوع كان، أو احتمال أن يوجه لهم أي نقد من أي نوع كان؟ هل كان السيد كيلو سيتجرأ على قول هذا الكلام؟ وهل كانت الأمور ستسير على ما يرام؟ فحتى كتّاب الجماعات السياسية التقليديين المعروفين، والذي صار من الواجب، الآن، أن نرفع لهم القبعة احتراماً، وإجلالاً، على اعتدالهم، وأدبهم، وحشمتهم في هذا المجال، وعدم طرقهم للمحرمات، والتزامهم اللياقة، والآداب، وتفريقهم بين بعض الممارسات السلطوية، التي لا يخلو منها أي نظام حكم في العالم، وهي ليست ماركة سورية بامتياز، وبين سكان الأرياف، هؤلاء، الذين ما فتئوا يتعرضون لشتى أنواع التشويه، والافتئات.
كما أعتقد جازماً، أن السيد كيلو لم يكن موفقاً البتة في هذا المقال، أو على الأقل، وبافتراض حسن النية دوماً، فقد تكون قد خانته التعبيرات، والعبر، والعبارات، والأفكار الغريبة، والهذيان الذي ورد، بكثرة، في صلب المقال، ولم يكن في أحسن حالاته، وتجلياته عند كتابة هذا المقال، وهي الشيء الأهم الذي يعرفه جميع من يمارس هذا "الكار". وثالثة الأثافي، أنه نحا كثيراً باتجاه التعميم، مما جعله يقع في المحظور، وفي مطبات، ومنزلقات خطرة جداً، عن قصد أو جهل، والحفر في منسيات، كان بغنى، أصلاً، عن "نكشها" من الأساس. ولسنا هنا بمعرض الرد على تلك الإساءات، وتفنيدها، أو مجرد تقييمها، بقدر ما نحن معنيون بعرض سيل الإساءات، والأحكام، والاستنتاجات، والقراءات الخاطئة لعادة اجتماعية، التقطها بعدسة مكسورة، في مكان خاطئ، وزمن أكثر خطأ، وكما وردت حرفياً في صلب المقال.
ومذ قرأت ذاك المقال الكارثي المشؤوم، لفحني زمهرير فكري، وأصابني طفح جلدي، واعتراني انبلاق عيني، نظراً لذاك الكم الهائل من المخزون الأسود، الذي يكنه البعض، حيال مكوّنات اجتماعية بعينيها، بناء على رؤى قاصرة، وتفاسير مريضة، وهواجس سخيفة، وأحكام افتراضية مسبقة. وآليت على نفسي، واحتراماً، لحرية الفكر، والرأي، ولرغبة، وموقف ثابت، بعدم إثارة أية مواضيع، من هذا القبيل، في حينها، وآثرت الصمت، وبَلْعت، من غير هضم، حزمة الإساءات، والتجنيات، والإهانات التي وردت فيه، والموجهة إلى مكون اجتماعي سوري، أشعر بالفخر بالانتماء إليه، لأنه من العار التبرؤ يوماً من أي انتماء، وبغض النظر عن موقفي الشخصي المعلن بكل ما يتعلق بالغيب، والميتافيزيقيات. ولا علاقة لأي مكون اجتماعي وطني عام، البتة، وأيا كان، بأية ممارسات فردية قد تحصل على الإطلاق، والتعميم دوماً لغة الجهلاء. إلا أن مفاعيل، وتداعيات المقال، وما أثاره من ردود أفعال، هي التي دفعتني، مضطراً، وآسفاً، بآن، لتقديم هذا الإيضاح، الذي لم، ولن أقول فيه كل ما يجب أن يقال، فهناك حدود عامة للياقة، والآداب التي افتقرنا إليها، في مقال السيد كيلو، على أية حال.
يبدأ السيد كيلو هجومه الناري، وذلك من خلال إطلاق النار العشوائي على الريفيين الخشنين، مستفتتحاً، بافتراض أن اللاذقية، تاريخياً، هي مدينة آباء وأجداد السيد كيلو، والاستنتاج المنطقي، هو أن هؤلاء "الريفيين"، الفوضويين، دخلاء عليها. وهذه المدينة، حكماً، وقانوناً، وحسب قانون السيد كيلو طبعاً، هي من ممتلكات أبناء المدينة، حصراً، السكان الأصليين، أما ما عداهم من سكان الأرياف الأجلاف، الذين دخلوها، وفي غفلة من الزمان، لا علاقة لهم باللاذقية، لا من قريب، ولا من بعيد. وإجرائياً، ومن هنا، يتوجب، فوراً، على كل من وطأ أرض أية مدينة، قادماً من أي ريف، أن يتركها لأهلها. وهذه آخر بدع حقوق الإنسان، ولجان إحياء المجتمع المدني، الذي احتله عنوة هؤلاء العسكر الريفيون الغلاظ. ويستطرد السيد كيلو، بأن سكان الأرياف هؤلاء، وحسب استنتاجاته دائماً، هم فوضويون، متخلفون، غير مرتبين، خشنون، صفراويون، ولا ذوق عندهم، ولا معيار، حتى في كتابة أوراق النعوات، والتعامل مع الموت، الذي يجب أن يحظى بشيء من الهيبة، والوقار. وينسحب هذا الانفلات الحضاري، حتى عند اختيار حروف الطباعة، وشكل الخط العربي، الذي تنتجه نفس ماكينات المطبعة الآلية، لابناء المدن والأرياف، ولا علاقة لهم بهذا البتة. بعكس أبناء المدينة، حيث ستجد الترتيب والحضارة والذوق والفن......إلخ . اقتباس(وفي حين تكون أوراق النعي المدينية مرتبة ومطبوعة وفق نموذج محدد، تتسم أوراق نعي الريفيين بعدم الترتيب، وبكثير من الفوضي في توزيع مكوناتها وفي نوع حروف الطباعة الخشنة المستعملة فيها، والورق الأقرب إلي الأصفر الذي تطبع عليه). ما هذا التجني، والهجوم، وإعلان الحرب غير المسبوق، وغير المبرر؟ وما هو مناسبة هذا الكلام المثير للقرف، والاشمئزاز، والمؤذي للمشاعر، وفي هذا الوقت بالذات؟
ولا يقف تأثيم هؤلاء الريفيين عند مجموعة، أو أفراد، بل يتخطاهم إلى "المعظم"، فكلهم مستفيد من "ريع السلطة" الريفية التي تؤازرهم، ولا تبخل عليهم، وتستقطبهم جماعات جماعات، ولا تسجن أي منهم، ويرفلون بالخير، والحرير، والثروة، والمال. أليس هذا هو العجب العجاب، بعينه، كما يقال!!!! اقتباس: (وحياة أبناء الريف، الذين يعيش معظمهم علي ريع السلطة وخاصة العسكري منه،........... في بلد تستقطب سلطته أبناء الريف في الجيش والأمن خاصة، وتمنحهم وظائف ومراكز قيادية في دوائرها ومرافقها الرسمية، وتشجعهم علي الانخراط في الجندية وما يتفرع عنها من دوائر وأجهزة.....). فحتى السيد عبد الحليم خدام، وبغض النظر من أي موقف منه، والذي يعتبر الخصم اللدود، والأبرز للنظام، الآن، أقرّ واعترف، وأيا تكن دوافعه، بأن هؤلاء "الريفيين" يعانون الفقر، والتهميش. والإهمال، ولسنا هنا أيضا في معرض تبني أية أقوال، ومن اية جهة كانت، وأخذها على سبيل الحقائق، ولكن الشيء بالشيء يذكر، حين يعتبر السيد كيلو، أن هؤلاء بمعظمهم يعيش على ريع السلطة، ويأكل من خيراتها، وبالتالي فهم شركاء في نهب البلاد.
ويستمر السيد كيلو بملاحقة هؤلاء الريفيين الفقراء، حتى إلى ما بعد انقضاء آجالهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والبقاء لله وحده، وحدوث الذي لا مفر منه، ويستهجن دفنهم في مساقط رؤوس آبائهم، وقراهم التي دلفوا، يوماً ما، منها، بحثاً عن اللقمة، والدفء، وهرباً من الفاقة، وشظف الحياة. ويستكثر عليهم تلك النعمة، بأن يواروا الثرى في تلك البقاع. والسؤال للسيد كيلو، هل بإمكانه تأمين "فتر" أرض، سعره بالملايين، في مقبرة "الدحداح"، مثلاً، أو "الفاروس"، وتحديداً لسكان نهر عيشة، والدحاديل، وعش الورور، والدعتور، وبقية أحزمة البؤس، التي يقطنها هؤلاء الريفيون البؤساء، ويشكلون غالبيتها، ويوفر عليهم بذلك نفقات نقل الجثامين من المدن للأرياف؟ وهل يقترح علينا مثلاً، بتبني تلك الطريقة البوذية بحرق الجثامين، وذر رمادها في البحار والأجواء، وكفى الله الريفيين شر الدفن في تراب الأجداد، ولكي لا يبقى، بعد ذاك، أحد منهم يعكر عليه ذوقه الفني الراقي، والعالي، في قراءة، وجرد أوراق النعوات؟ هل هذه هي آخر الابتكارات؟ وهل هناك أي اقتراح سري، لدى عتاولة إعلان قندهار، حول أين سيدفن هؤلاء أمواتهم ؟
ولعل أخطر ما في المقال حين يتحدث السيد كيلو عن أسماء وألقاب هؤلاء، وما لهذا من رمزية ودلالات تربط مباشرة بين الإلتزام الديني والإيمان. حيث يندر وجود أي "حاج" أو رجل دين أو "شيخ" في أوراق نعوة الريفيين (......)، أو أي اسم فيه أية نفحة، أو إيحاء بالإيمان، وخاصة، ما "حُمِّد وعُبِّد". اقتباس (.....المقدم أو الرائد أو النقيب أو الملازم أول نضال أو ثائر أو كفاح أو رفيق أو خليل أو إبراهيم أو إسماعيل أو حسن أو علي... الخ، وأصهاره أزواج بناته ثورة أو ثائرة أو نضال أو رفيقة أو أمل أو شروق هم المقدم المهندس أو الرائد الطبيب أو الملازم الأول الإلكتروني أو المستشار الفني أو المزارع... الخ. بينما ستجد بين اخوته مدرسا أو معلما أو عضو قيادة شعبة في الحزب أو محاميا أو قاضيا أو مهاجرا.....). فيما تترع أوراق نعي المدينة بحجاج بيت الله الحرام، ورجال الدين الأتقياء المعصومين الشرفاء، والشيوخ الأجلاء، بكل ما في ذلك من تأويلات. هل يمكن أن يكون هناك أي معنى آخر للتجني، والإسفاف غير هذا الكلام. اقتباس: (إذا انتقلنا إلي أوراق النعي المدينية، وجدنا كلمات تتكرر في كل منها هي الحاج أو الشيخ أو التاجر أو المهندس أو الطبيب أو الأستاذ... الخ، تعلمنا أن هؤلاء من رجال البر والتقوي والخير والإحسان، في حين تعكس أسماؤهم بدورها نزعة دينية سادت خلال السنوات الأربعين الماضية لدي معظم أبناء المدينة، فالمتوفي هو محمد جمعة أو محمد غالب أو محمد سالم ـ أو أي شيء من هذا القبيل ـ وأبناؤه هم بالتأكيد محمد مصطفي، ومحمد عبد الله، ومحمد نديم، ومحمد رجاء، ومحمد واصل، ومحمد حسيب، ومحمد طه، ومحمد خالد، ومحمد عمر... الخ، بينما يوجد دوما اسم فاطمة وخديجة وزهراء وعائشة ومؤمنة وتقية وسميه وآمنة وآية بين أسماء بناته وقريباته، وعبد الستار وعبد الله وعبد الغفور وعبد الرحمن بين أسماء أصهاره واخوته وأبناء أعمامه وأخواله، مشفوعة علي الغالب بصفة الحاج أو الشيخ أو البار أو التقي).
ولا يقف افتراء السيد كيلو على بني الأرياف عند هذا الحد، بل يذهب أبعد من ذاك عندما يضع الريفيين الخشنين الفوضويين جميعاً، في صف واحد جنباً إلى جنب مع النظام، ناسياً، أو متناسياً، اؤلئك السجناء الذين قضّوا، ومنهم من لازال يقضي "محكوميات" سياسية حتى الآن. وربما كان هذا هو السبب الذي دفع السيد الماركسي، ورهطه الميامين، من عدم إطلاع أولئك السجناء الريفيين، على عريضة "إعلان قندهار"، الذي أسفر عن مكنوناته "الوطنية" العالية في هذا المقال بالذات، ولن يغفر السيد كيلو، وربعه الأبرار، لهم "تهمة الريفية" ولو حُكموا جميعهم بالإعدام، وأمضوا بقية هذا العمر المسفوح الجبان، في المعتقلات، ووراء القضبان. اقتباس:( بينما ستجد بين اخوته مدرسا أو معلما أو عضو قيادة شعبة في الحزب أو محاميا أو قاضيا أو مهاجرا، دون أن يبطل ذلك الطابع العسكري الغالب علي الأجيال الجديدة من أسرته أو علي من يمتون إليها بصلة).
لا أعرف من يريد أن يرضي، ولمن يوجه، أصلاً، مثل هذا الكلام، ولست معنياً، مطلقاً، بتفنيد ما جاء بمقال السيد كيلو فهذا الازدراء، والانتقاص، والافتراء، هو من هلوسات ذهن قد طلق كل منطق، ولا يصلح معه أي حوار. ولكني بت أعرف شيئاً واحداً، وأصبحت متأكداً منه بشكل تام، وهو أن مقالة نعوات سورية، هي نعوة سورية فعلاً واحدة، ووحيدة، وذات طابع مأساوي خاص، ولكن لفكر السيد ميشيل كيلو، بالذات، ولكل من يردد مثل هذه القبائح، والترهات.

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com