مَرْضى النفوس في دول الأغتراب

قاسم محمد الكفائي / كاتب عراقي – كندا

iraqisiraq@yahoo.com

المَرَضُ في العقل والنفس هو أخطرُ بكثيرٍ من مرض البلهارزيا والجدري  الذي يصيبُ الأنسانَ ، و مرض التدرن الرئوي ، أو انفلونزا الطيور . فاذا ما سكتنا عن عِلل فينا نحن العراقيين الذين يعيشون في مهجر الشتات فأن هذه العِلل قد تكبَر وتُصيب كلَّ أعضائِنا حتى الشلل والأدمان . فلو نراها سهلة وغير مُعدية قد يكون ممكنا بشرط عدم السكوت عنها دون تجاوز ، والحكمة خيرُ دواءٍ وأنْجَع . وللقضيةِ أبعادٌ أولهُما تهديد روح المواطنة عندَ الأنسان العراقي الذي صبر على ضيم نظام صدام ورفضَ الهجرة من بلادِه  الى بُلدان أخرى ، وتُهَدِّدُ أيضا روحَ المواطنة لدى الأنسان العراقي  الذي يعيش في المهجر ( حِفاظا على تلّوث مواطنته وعدم الركون لأستهتار أجهزة النظام القمعي لجعله مطيتهم كيفما يشاؤوون ) وقد لا يمتلك  مخزونا من العلم ليقوِّم به نفسَه ومنهجَه الحياتي حتى تكون النتيجة هي خدمة العراق الحبيب وشعبهِ المغلوب على أمرِه . فالمواطن العراقي الذي هاجر أيام ضيم ( صدام والبعث ) الى دولة تحميهِ وتأويهِ قد سلك مسلكا صحيحا كون الظلم اذا عمَّ على البلاد يحرق أخضرَها بيابسِها وليس من حَلٍّ سوى أن يسلك الأنسان دربَ الهجرة بعد توفر قناعاته. فلو كانت النِيّة خالصة لله والوطن ستكون كلُّ أيام ذلك الأنسان التي يعيشها في المُغتَرَب عبادة ، وسيكون هو في الصف الأول ممَّن تحمَّلَ الأمانة والمسؤولية التي أولاها شعبُه له . بهذا النفَس العميق يمكن للأنسان المُهاجر أن يُقدِّمَ الكثيرَ لشعبهِ ووطنهِ من خلال حياتهِ المِهْجَريّة ، وهناك أكثرُ من طريقةٍ تؤدي بنفس الأتجاه . هذا هو المنطقُ العام والسلوك الصحيح لو كان الأنسان قد أحسَّ بتلك المسؤولية التي تفرزها روحُ المواطنة كمخزون يتحرك في  ذاته وتُحَرِكُهُ  كقيمةٍ  لهُ عند الممارسة  . لكن هناك  الكثير من مَرضى وضِعاف النفوس ، ( ومنهم مَن لا يفقهون وبدون قصد ) عندما يعود بعضُهم الى العراق من دولة المهجر في أوروبا ، أو أمريكا الشمالية ، يلتقي بأهلهِ وناسِه        ( المساكين ) باستعلاء لأنه صار ( مثقف ) بسبب الطريقة الغربية التي مارسها في الحمام ، وبيت الخلاء ، والسرير ، والساندويج ، والكلاب ، والقطط ، والعصير ، والسلاطه ، والشورت   –  نص ردن – ، والمشروبات الروحية والغازية المختلفة ، والنقل ، والمصاعد الكهربائية ، وسهولة التعامل مع المصارف ، والفيزا أوالماستر كارد ، و – الكير فريند – والسيارات ، الىغيرها الكثير . كذلك عندما يعود الى العراق يُزعِجُهُ غبارُ السيارات ، والمارّة ، وبائعو الخضروات ، ويُزعِجُهُ كلُّ مَظهر يراه ولا يُحِبُه . والمصيبة الأكبرُ والأعظمُ عندما يتحدث مع أمهِ العجوز أو أبيه الشيخ الكبير أو صديقِه الفلاح والعامل والبطّال ينسى اللغة العربية فيخلطها بشيء من الأنجليزية أو السويدية أو النرويجية أو الألمانية والهولندية الى غيرها من اللغات . مسكين نسى لغته ( يعني  كَام يخبط ماي ودهن) ما بين العربية الأم ولغة الدولة التي عاش فيها  ( النكته الحلوه أن هذا المسكين لا يجيد لغة تلك الدولة عند المحادثة مع أهلِها ) . وهناك أمر آخر، أنَّ هذا المريض يقدح بأهلِهِ وأصدقائِهِ أنهم ( متخلفين ) و ( ولازم يتثقفون ) ، ويقدح ببلدِه  من أجل أن يرفعَ من شأنِه هو المريض ودولتِه المتحضرة تلك . هكذا مرض لابدَّ من معالجتِه بطريقة تركيز الأعلام العراقي على هذه الظاهرة الخطيرة لقلب جميع كراسي الجلسة على رأس المرضاء لتوعيتهم وعلاجهم بأبسط وانجَع الطرق . هذه العقلية التي يملكها هكذا انسان بحاجة الى تمارين رياضية لأنها خاملة وغافلة عن أبسط الحقائق التي تدور علنا في ساحات دول الغرب ، فكيف بحقائق مُغطاة بأطنان من حديد ومُخبئة تحت أرض تلك الدول في عالم  السياسة والمخابرات  ( هكذا وجدتُ بعض أصحاب الشهادات العليا لا يتساوون في معرفتهم مع القيمة العلمية للشهادة ) . الأنسان الذي يَعي ويَفهَم اللغة السريَّة لهذه الدول ، ويفهم دهاليز سياساتِها ، وأسباب وجوده هو عليها كلاجىء سوف لن أن يغفلَ عن أبعادِ دوره في صناعة التقييم والتعاطي معا . نعم يمكن للأنسان المحترم والواعي أن يعيش أينما يريد ويحترم الأرض التي يعيش عليها مهما كان معدنها ، ويخلص لها وكأنها بلده الأم فيمارس دورَهُ على أنه أنسان منها ( الحقائق المُخبّات في تلك الدول لا تريد أن تجعلَ مِنّا مكونا لشعبهم و مقالاتنا القادمة ستكون أكثر توجه وشمولية وسنضع النقاط  على الحروف )  . المهم في الأمر أنَّ فهم هذا الأنسان لمعنى الحضارة والعلم والثقافة ينبع من ( بيت الخلاء الغربي ) و( الشورت القصير ) ، ولا يدري أنَّ أمَهُ العجوز المسكينة مُتحضِّرة من الدرجة الأولى وأكثر ثقافة من توني بلير، المتوحش على الأنسان بروح خالية من كل قيمة وناموس ، أو وجورج بوش الذي يستطيع أن يَغيرَعلى دول لحتلالها وترويعِها ، لكنه وبنفس الوقت لا يجد القدرة على اعتراض ابنته لدى خروجها من بيتها ، أو يسألها عن مكان مبيتها لليلة الماضية ، أو الجهة الكندية الرسمية التي صادقت على قانون زواج المثيلين ( الرجل مع الرجل ، والمرأة مع المرأة )  ليتم عقد زواجهما الرسمي في أكبر كنائسِهم وأكثرِها قدسيّة . والى حدّ هذه اللحظة توجد على جدران محطات القطار في مدينة تورونتو الكندية دعايات لهذا الزواج مع أرقام الهواتف وأسماء المواقع على الأنترنيت . إذن لابدّ لأعلامِنا التركيز على هذا الفهم الخاطىء في المعرفة الأغترابية . لقد تناسى هذا الأنسان المشاكل الأخلاقية التي تُهَدِّدُ كلَّ فرد وعائلةٍ في المجتمع الغربي ، وتناسى هؤلاء عندما يرونه في الشارع بلونه الأسمر يبصقون على الأرض تحقيرا له ، وتناسى غسل المواعين في المطاعم ، أو مسح الكاشي والمغاسل ، أو تقديم المساعدة الحكومية الشهرية له باستحقار ،( لما يبعث مسؤولُه الأجتماعي برسالة له يطلب منه تنفيذ مضمونها مع تحديد موعد ، يُهدِدُه فيه بقطع المساعدة المالية في حالة التأخير ) . كذلك يُخفي على أمِهِ عَملهُ كسائق تاكسي يمارسُه بامتهان لخدمة الحشاشة آخر الليل والعاهرات والسكارى وأولاد الزنا ، وخطورة العمل ( ما أكثر الحسنات لحالة الأغتراب في تلك الدول وأدعو كلَّ مُغترِب عراقي أن يكون غيورا ، حريصا على دولته التي يعيش عليها وكأنها العراق الحبيب ) .  تناسى المثقف المغترب العائد أن يشكو لأمه ومُجْتمَعِه أصنافَ الذل هذه بينما هو عزيزٌ في بلدِه العراق ولا ينادونه إلا بأسم ولدِه أو بكلمة حاج أو سيد أو أخ . هذا المريض لا يعرف أن غبارَ ذلك الشارع هي ذرّات تراب حضارات سادت ثم بادت بتعاقب عشرات آلاف السنين على أرض الرافدين ، ولم تكن ذرات أرض مغصوبة مستباحة . كما وتناسى دورَه الذي يجب عليه أن يلعبه في بناء عائلتِه  ومزرعتِه وشارعِه ودارِه التي هدمتها سياساتُ هذه الدول  . مع كل هذا فَقدَ مُثقفنا كلَّ حواسِّه فنسى أن العراق يُعاني من انقطاع التيار الكهربائي منذُ ( 35 )  عاما  والناس فيه تعيش الأمان والأستقرار وتمارس أرفع القيم فيما بينها لولا الفتن الخارجية في فترة متأخرة وشاذة . أما الدول الغربية لو واجهتها هذه المشكلة ساعات سيكون عيش الناس في ظنكٍ ملحوظ ، وعندما يصير يوما تطفو المشاكل بكل اختلافِها الى السطح ومنها جرائم السطوعلى البيوت والمحال التجارية . ولو استمر الأنقطاع الى مدة أسبوع  فقط  فسوف تتغير خارطة البلاد برمته لتنحدر الى عالم مجهول ينذر بالشئم والويلات  ( اللهم احفظ كندا من كل مكروه ) . نعم هناك عِلم ومدنية في الغرب لا يُمكن لعاقل أن يغفلَ عن اقتنائِهما لو استطاع اليهما سبيلا في نية خالصة للوطن ( بس بدون شورت  رجاءً  ) . فالتمسك بحبل عراق الحضارات والمقدسات هو أرقى معاني الحضارة والشموخ الحضاري ، وماكان العراق كباقي الكثير من دول العالم وليد مائتي عام فقط  ، سُلِبَ بالقوةِ وقهرِ الأمم . العراق مَهدُ آدم أبو البشر الذي يُعَدُّ أولُ إنسان خلقه الله ليجعله مصدرَ الأنسان الآخر الذي بزغت منه القيم والقانون وكل مكونات الحضارة على امتداد التأريخ الأنساني الذي يُعَدُّ مصدرا للحياة.

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com