نعوات بدون عزاء

نضال نعيسة

sami3x2000@yahoo.com

بالرغم من جنائزية المشهد العام، وأساه، وتتابع مشاهد التشييع المستمرة لكثير من الآراء، والأفكار، والشخصيات، فقد أثارة نعوات الأستاذ ميشيل كيلو، السورية غريبة التوقيت والدلالات، المزيد من الأحزان، وفتّقت الجراح، وأثارت الشكوك، والارتياب حول بعض من بواعث، ودوافع بعض أجنحة المعارضة السورية، التي تدّعي الوطنية، والماركسية، والعلمانية وأخواتها، والذي كان حرياً بها، وتوخياً لمصداقيتها، وتأكيداً لحياديتها، وبرهاناً لوطنيتها، أن تعلن، وعلى رؤوس الأشهاد، موقفاً واضحاً، وصريحاً، حيال ذاك الهياج المنفلت، والازدراء المتعمد الذي ظهر بين سطور المقال، والذي صوّب، وبدون مناسبة، سهامه السامة، نحو أبناء الريف الساحلي، ووصمهم، بكل تلك الصفات من البداوة، والفوضوية، وانعدام الذوق.....إلخ. وأعقب ذاك المقال-الكارثي، وربما "المكارثي"، فيض من المقالات والتعليقات، التي ذهبت في غير مكان، وكان آخرها، مقال للصديق العزيز الكاتب غسان المفلح، رداً على مقال كنت قد كتبته بهذا الشأن بعنوان: "ميشيل كيلو: طرق المحرمات".
وقد ذهب الأستاذ العزيز غسان، بعيداُ جداً، ولف ودار، كما فعل في مقالته السابقة، دون أن يلامس جوهر الموضوع، أو الاقتراب من تلك الجزئيات الصاعقة التي أثارت الغضب، واللغط والجدال، ألا وهي التعرض، بذاك الكم الهائل من الازدراء، والانتقاص، في مفاضلة ثنائية من نسج الخيال، ومقارنة مضحكة، وغير واقعية على الإطلاق بين بعض المكونات السورية. وكنت أنتظر، وآمل منه أية إشارة، أو استنكار، ولو مبهم، ومن بعيد، لما طرحتُه في مقالي، وبعيداً عن التنظير، حيال ما قرأناه من تهكم وإساءات. ولست هنا، البتة، في معرض مناقشة، أو الرد، على ما جاء في مقالة الأستاذ المفلح، الذي أكن، كل تقدير واحترام، لفكره، وقلمه، بغض النظر عن اتفاقي، و اختلافي معه في هذا الجزء، أو ذاك. فهذه آراؤه التي نحترمها، بقدر ما أنا معني مباشرة، وأكثر من عنايتي برأي كانط، ولينين، وبيير بوروديو( مين بيير بورديو ده!!!!)، بسؤال الصديق الأستاذ، ما رأيه، بالضبط، بما ورد في مقال الأستاذ كيلو؟ وهل أضحت الريفية الساحلية، تهمة بذاتها، ولحاملها بشكل عام؟ وهل أنّ كلّ من يحمل هذه الهوية، يصنف بنفس السياق، والمعيار، والميزان؟ الموضوع مؤلم وجارح، وهذه هي المفاصل الهامة في الموضوع، يا أستاذ غسان، وليس التنظير، ورأي المرحومين لينين وكانط عليهم، جميعاً، رحمة الله؟ وهل تقتضي الوطنية الحقّة التي ننادي بها في كتاباتنا الانتقاص من، والتهكم على، والتشكيك بمدنية، ورقي أي مكون سوري هام، وعدم ملائمته لمعايير الوطنية التي تريدها أذواق شيوخ المعارضة الأجلاء؟ وهل تقتضي آداب، وأخلاق حسن الجوار، تذكير الناس، بـ"عوراتهم، وإعاقاتهم العقلية والحضارية والبشرية"، إذا سلمنا جدلاً، بوجود أي نوع من القصور، والعوز الإنساني العام لديهم؟ أم المطلوب استقطابهم، وإعادة تأهيلهم، وطنياً، وفقاً لمعايير المعارضة السامية، وتصوراتها الحكيمة؟ هل سمعت بزميل لك، كنت، وإياه، من أيام قلائل، تتمشون في الشانزيليزيه وأول حرف من اسمه فاتح جاموس؟ هل ينبغي ان أذكرك يا أستاذ غسان، وبعيداً عن لينين، وكانط، وبيير بوروديو نفسه مرة أخرى، ووعي الذات، بأنه ينتمي لأولئك الريفيين؟ ألا يدين لك بأي اعتذار؟ هل مازال يعتبره السيد كيلو من الريفيين، ولم تفلح سنوات السجن الرهيب، التي قاربت العشرين عاماً، في إعطائه صك البراءة اللازم، من التلوث بتهمة "الريفية"، التي صارت تعني الكثير، والكثير في قاموس السيد كيلو، ومن لف لفه من مفكرين كبار؟ هل يعلم الذباب الأزرق، والأصفر، والأبيض أين يقبع بعض من هؤلاء الريفيين السجناء الآن؟ وبماذا يفكرون، وكيف ينامون، وعلى أي جنب ينقلبون في هذه الأثناء؟ أم أن الوطنية حكراً على السيد كيلو لوحده ابن اللاذقية البار، مدينة آبائه وأجداده؟ لماذا لم تذكّر صديقك الأستاذ الكبير كيلو بهؤلاء، علّه يعفو عن بعضهم، ويرفع أسماءهم من قوائم النعوات الخشنة، والتي يتهمهم جميعاً بالانتماء للجيش السوري، وفروع المخابرات، ومافيات النهب، والشفط والفساد؟ والأهم هل أصبحت هذه المؤسسات الوطنية، وبغض النظر عن بعض مما يقال، في عرف السيد كيلو سبة، وموضع شبهة، وارتياب؟ ألا تعتبر سوريا، وبعيداً عن أي منظور أمني سلبي قد يتبادر للذهن، واحدة من أكثر بلدان العالم أمنا، وأماناً، وهذا ما يبحث عنه الجميع الآن، حتى في أعرق الديمقراطيات التي يتغنى بها السيد كيلو ورهطه الأبرار؟
التوازن، والاعتدال، أستاذ غسان، في مقاربة أي موضوع أمر مطلوب. وحين يكون هناك دعوات لعمل سياسي، ووطني، يجب التجرد تماماً من أية حساسيات، وتجاوز المنغصات، وترك نزعة الاستعلاء، ونبذ عقلية الوصاية، والأستذة على الناس. كما يجب النظر لمكونات البلد بنفس المعيار الوطني الحيادي. فالاستبداد منظومة عامة، تعم هذه المنطقة المنكوبة من بابها لمحرابها، فقط، وليست حكراً، على قوم، أو لون ما. والحماقة حين تخصيص السلوك بمكون ما. وحين يكون هناك شروع في عمل وطني عام، لا يجب استبعاد أي من هذه المكونات، والنظر إليها من مناظير خاصة، وربطها بممارسات سلبية، ربما قد تكون حدثت من قبل أفراد، في زمن ما. وإذا كان لأحد مشكلة مع هذا النظام، أو ذاك، فلا يجب أن يسحب عداءه، وغلّه، وحقده على كل ما يمت لأنظمة لم تفرق يوماً، في توزيع الظلم على الناس. هذا التوازن، وللأسف، يا أستاذ غسان، كان مفقوداً في الكثير من الردود والمقالات، التي نحا معظمها نحو التسليم التلقائي، غير القابل للنقاش، بكل ما جاء، وبحرفيته، في مقال الأستاذ كيلو، واعتباره مرجعاَ وطنياً مقدساً، وصحيحاً، لدراسة، واستكشاف هذه "الفصيلة البشرية النادرة"، التي تقطن ريف اللاذقية. ومن هنا تنبع أمّ المخاطر، والمشكلات. وتشكّل، هذه الرؤية القاصرة، إحدى أهم الإشكاليات، التي تواجه بعض فصائل المعارضة في غير مكان، وتفقدها الكثير من مصداقيتها الوطنية المطلوبة، وذلك عن طريق هذا الربط الأعمى السلبي الشامل، والعام، بين ممارسات سياسية وسلطوية ما، ومكونات وطنية، لا ناقة لها، ولا جمل بكل هذا الهرج، والمرج، والجدال. وهذا ما يولد كثيراً من العراقيل، والصعوبات، والإضعاف في عمل أية معارضة تحاول أن تقف نداً لأي نظام، ويخلق التشرذم، والانقسام، وهذه آفة الآفات، ومرض العقل الذي ما بعده شفاء، يا سيد غسان.
وسأسلم معك، جدلاً، وكونك لم تستنكر ما جاء في مقالة الأستاذ كيلو، بكل ما جاء في مقال "إعلان الحرب على أبناء الأرياف"، فما هي المناسبة، والغاية، ومن يخدم، وبماذا يخدم هذا الكلام، العمل الوطني؟ هل يوحّد الصفوف، ويزيل الغشاوات، أم يعمّق الجروح، ويزيد من حجم الاختلاف؟ أعتقد يا أستاذ غسان، أن تقييم أي عمل، يتم بما يجلبه من فائدة للصالح العام، وما يعود به من ربحية ملموسة على الأرض، والواقع المعاش. فهل لكم، ولو تكرمتم، تزويدنا بالفوائد المتوخاة من فتح النار، وإطلاق هذه الراجمات، وبغير حساب، وفي هذا الوقت بالذات؟ وإنه لمن السذاجة الاعتقاد، أن مثل هذا الكلام لا يفرح النظام، أولا يغضب، بذات الوقت، أهل الأرياف "البهاليل" البسطاء؟ فهل يصب هذا الكلام، في النهاية، لو توخينا الدقة، وتحرينا ما قد يحدثه من اصطفافات محتملة، في صالح معارضة، يجهد السيد كيلو نفسه في قولبتها، وتمتينها، وبنائها، على حد قوله، وزعمه. ألا يخلق هذا، يا سيد غسان، عملية فرز واضحة، نحن في غنى عنها، في هذه الملمّات الوطنية، والمنعطفات التاريخية الخطرة، حتى ولو استعرنا هذا التعبير، من أدبيات الخطاب الرسمي السوري؟ ألا يستهدف هذا الكلام إحداث شرخ كبير في جدار المعارضة المنهكة أصلاً، وهذا ما فعله السيد كيلو، وهنا ألا يجدر بنا التساؤل عن مسؤوليته، وغايته "المبهمة" من كل هذا الخطاب؟
وهكذا يستمر مسلسل النعوات، ولكن بدون أي عزاء، والموضوع، وباختصار شديد، وبدون تنظير، ورجاءً، يا سيد غسان، لقد حدثت هناك إساءة بالغة، وتحقير، وتهكم،وهجوم واضح وغير مسبوق مبهم الأهداف، وحطّ من قدر جماعات بشرية ووطنية، تشكل مكوناً هاماَ في النسيج السوري، والمطلوب ليس تنظيراً، بل موقفاً صريحاً يدينها، ويفنّدها، ويعريها، لا التصفيق والتهليل لها، ويعلن الوقوف الشريف والشجاع، والتضامن التام، مع كل من أصابه سوء، وألم وأذى جرّاء هذا الاجتراح، إن كنا فعلاً، وطنيين صادقين، بكل ما في هذه الكلمة من دلالات عظيمة، والتزام؟
لا بد في النهاية من الإعلان عن التضامن التام مع الأستاذ ميشيل كيلو، في محنته الأمنية التي نرجو له خروجاً سريعاً من السجن، وعودة ميمونة، وسالمة لعائلته، وأسرته، وإن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية. وهذه دعوة قلبية، وصادقة له، من أحد أبناء ريف اللاذقية.

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com