منهج العقل السليم، الذي يراعي المنطق، وفي رحلته الأبدية نحو اسكتشاف الحقائق، يقضي تمحيص، ودراسة أية ظاهرة أو موضوع، وعدم أخذ الأمور على "علاّتها"، كما يقال، ودونما نقاش. ولا شك أن مناقشة أية فكرة، أو أمر قبل تبنيه، أو تصديقه، تعتبر مدخلاً لقرار صائب، في نهاية المطاف. والوجه الآخر لهذا المنهج العقلاني، والعملي، هو الاستسلام، وتغييب العقل، وتحييده، وإغفال دوره، في معادلة التمييز، بين الغث والسمين، والجنوح الفطري الطاغي لتبني أي أفكار دون الاستناد على أية قواعد عقلية في هذا الإطار. وهذا من شأنه أن يقود بصاحبه للمهالك، والردى. ومن هنا، تحاول بعض أجنحة المعارضة السورية، ومنذ مدة، ليست بوجيزة، ومستندة على شرعيتها في معاداة النظام، الاستئثار بقرار المعارضة السورية، ومصادرة قرارها، والظهور بمظهر حامي حمى الأوطان، وكل ما عداها، يقع في مراتب دونية، وأقل رقياً، ومقدرة لبلوغ ما وصلت إليه. وتجلى ذلك في عدة مناسبات صوتية، "جهادية"، ونضالية، واستكشافات عبقرية قام بها هؤلاء الفرسان الأشاوس، وبعيداً، عن التشاور مع بقية مكونات، وأطياف التعارض السورية، الموزعة بين مختلف التيارات الأصولية، والقومية، والماركسية، والعلمانية الليبرالية. وأصبح عصب هذا العمل المعارض هو الشللية، والتمركز، والمحاور، ومحاولة الاحتكار، وتعداها في المراحل الأخيرة نحو الإبعاد، والتخوين، والتشكيك، والتحقير، والإقصاء. وصار الميل نحو الأستذة، والاستعلاء، وفرض وجهات نظرها المسلّم بها، سلفاً، والتي لا يأتيها الباطل، لا من أمامها، ولا من خلفها، ولا من بين بنود طيب الذكر إعلان قندهار، واحدة من أهم سمات معارضة تضعف، وتتهافت، بسبب التورم المرعب، والخطير لبعض من هذه الأمراض.
وتصبح مجرد انطباعات، أو هذيانات، وهلوسات أي نجم من نجومها، حتى ولو كان جالساً يدندن، ولوحده، في الحمام، حقائق دامغة تلزم الجميع الأخذ بها، واعتبارها كتباً منزلة، ونازلة من سابع سماوات، ولا تحتمل الجدل، أو التأويل، ولا حتى النقض، أو الاتهام. وحين يتصدى أي شخص، حتى ولو كان درويشاً، وبهلولاً، وعلى باب الله، لبعض من الترهات، والتجني، والإسفاف، يصبح زنديقاً، ومارقاً، ومشبوهاً، وتحكم عليه اللاتات، والعزّات، وبقية الأصنام، بالموت، والرجم، والإعدام. فهل أن مجرد معاداة، وسب، وشتم هذا النظام، أو ذاك، يضع صاحبه في مراتب المعصومين الأتقياء؟ وإذا كان البعض ابالسة، وشياطيناً، فهذا لا يعني، حكما، أن الآخرين، ملائكة، وطهراء، وهذه من أبسط المسلمات، ومن أضعف الاعتقاد. ألا يتطلب العمل الوطني الكثير والكثير من المؤهلات؟ فلقد أفرزت تجربة المعارضة السورية، الكثير من الظواهر التي أصبحت جديرة بالدراسة والاهتمام، كالتلفيق، والتأليف، واختلاق "الحتوتات"، المسلّية للصغار، وسبك الروايات. وأصبحت عملية إصلاحها، ولم شملها، وتوحيدها، ضرورة وطنية أخرى، مثل كل تلك الضرورات الكثيرة، الماثلة في طريق العمل.
وبداية لا ننكر على أحد، أبداً، كل تلك التضحيات، والخدمات التي قدمها لمسيرة العمل الوطني السوري، ودفع من سنين عمره ضريبة غالية، وأزمنة مديدة، في الظلام، ووراء الأسوار. وهذا، ولا شك، موضع تقدير واحترام، من كل وطني غيور يثمِّن معنى التضحيات، ويقدر الأثمان الباهظة التي دفعها هؤلاء. ولكن، وبنفس الوقت، هذا لا يخوّلهم أن ينطقوا بغير المنطق، أو أن يجنحوا، ويشطوا، ويستخفوا بعقول الناس. كما لا يعني، أن أحداً من هؤلاء، قد أصبح بمنزلة الآلهة التي لا تخطئ، ولا تعتريها كل تلك اللحظات الإنسانية المعروفة، من ضعف، وترهل، وتراجع، وخذلان. فليس كل ما يقوله، فلان، أو علاّن، أو "علاّك"، وحتى لو أفنى عمره في صفوف المعارضة، هو الحق، والصواب، وما عداه، زيف، وكذب، وادعاء.
إن الخطأ، والشطط، والوقوع في المطبات، هي من أهم صفات الطبيعة البشرية، التي لم تستثني، يوماً، حتى القديسين، و"الأولياء"، والأنبياء. وإن وعي هذه البديهية البسيطة، هي أولى مقدمات التفكير العقلاني، والسليم، الذي يؤدي للنتائج المنطقية، والصحيحة، والذي يجب أن نتوجه به إلى العامة، والناس البسطاء. غير أن وضع العُصابات على العيون، والسير في حقول مليئة بالألغام، ستكون نتائجه كارثية، وعلى صاحبها بالذات. مثلما أن إطلاق النار العشوائي على تجمهر من الناس، لا بد سيصيب كثيرين من الضحايا الأبرياء. فالتركيز، والتدقيق، واختيار الأهداف، دائماً، مطلوب في هذه الحالات. إذ لا يعقل أن نصدق، أبداً، أن زيداً لا يشطح ، أو أن عمراً لا يزل في الكلام. وإن الشرعية التي اكتسبها البعض من خلال نضالهم، أو عدائهم الأعمى، وكرههم للنظام، لا يعطيهم، بالمقابل، شرعية أخرى، وهي التسلط على عقول الناس، واحتكار الحقيقة. ولا يكسبهم ذلك، في ذات الآن، العصمة، والطهرانية التي يحاولون الظهور بها، والتي تمنعهم من الوقوع، أبداً، في الأخطاء. فالمنطق، والشفافية، والصدق، والواقعية هي الأساس والمعيار. وعلى مبدأ ليس حباً بعلي، ولكن نكاية بمعاوية، يحاول البعض إضفاء نوع من القداسة، والتفرد على بعض الرموز المعارضة، فقط لمجرد معارضتها للنظام، حتى ولو نطقت بالأراجيف والأهواء. وودون أن تحقق أي اختراق على صعيد المعارضة السورية، اللهم إلا ذاك الضجيج، والصخب الأجوف الذي لا يغني، ولا يسمن من جوع، وخلّف تلك الحالة من التشرذم، والتفتت، والانقسام التي نجمت عن سياسات بائسة، ورؤى قاصرة، ومحاولات استحواذ. هذه هي ثقافة التصنيم التي يحاول البعض أن يؤسس لها في التيار المعارض، ويدعون الناس لعبادتها، بعد أن كانت حكراً، وماركة، خاصة، من ماركات الاستبداد. فكما أننا لا نريد أصناماً مقدسة في صفوف أي نظام، فإننا لا نحب أيضاً رؤية أية أصنام في صفوف أية معارضة وطنية. وحين تتم مقاربة أية مسألة، أو موضوع، تجب مخاطبة العقل قبل أي شيء، وليس دغدغة العواطف، واختلاق الروايات، واستغلال المشاعر.
إلغاء العقول، والمحاكمات العقلية أمور مرفوضة تماماً. ومخاطبة العقل منطقياً، والحياد الموضوعي، والوطنية المجردة الحقة، البعيدة عن التعصب، والاصطفافات، ومصداقية الطرح وواقعيته البعيد عن الغلو، والتجني، والانحياز، هي من أهم شروط بناء تلك الحالة المعارضة المقنعة. وما عدا ذلك فكله عبث، وحرث بالماء، ولا يعطي النتائج المتوخاة. فكما أن التصدي لكل تلك الممارسات، والبدع الاستبدادية، لأي نظام، هي واجب وطني، فإن تفنيد، وتعرية بعض أراجيف المعارضة، وانحرافاتها، والتنبيه لأخطار ضلالاتها لا يقل وطنية، وأهمية، عن ذاك، بأية حال.