كمال سبتي في المنفى الأسترالي أيضاً

شوقي مسلماني

Shawki46@hotmail.com

ليس لي أن أدّعي معرفة الشاعر العراقي الراحل كمال سبتي، فأنا في محبسي الأسترالي منذ ثلاثين خريفاً تقريباً، وكلّ عدّتي بسبب مِنْ هذا المحبس البعيد صفحات قليلة من كثير بدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة وعبد الوهّاب البيّاتي وسركون بولص وعبد القادر الجنابي والجواهري وسعدي يوسف، في ما بعد اطّلعتُ على شعر عراقيين كان عليّ أن أنتظر سنوات كي يأتوا هم إلي. لم يكن كومبيوتر، ولا إنترنت، ولمّا كانا نُهِرتُ إليهما نهراً حتى بلغتهما قبل سنوات لا تزيد على أصابع اليد الواحدة، وبدأتُ أسمع أكثر، وأقرأ أكثر، لكن ظلّ كمال سبتي محجوباً عنّي، حتى فجأةً وجدتني محاصراً بفجيعة رحيله مرّة وإلى الأبد عن عالمنا وهو في منفاه الهولندي. أتصفّح إيلاف، فإذا نعي للشاعر، أتصفّح الصحف البيروتيّة، فإذا نعي للشاعر، أتصفّح المجلاّت الألكترونيّة الأدبيّة، فإذا نعي للشاعر، ومقالات تستذكره، أو تهمّ بإعادة اكتشافه. ما هي الحكمة التي يجب أن أستخلصها مِنْ كلّ ذلك؟ إنّي أقترب وأبتعد، والحفْر كلّه على صفحة الماء.

مات الشاعر كمال سبتي فتنادى عراقيّون في سيدني لتأبينه، ولكن هذه المرّة احتجبتُ أنا لارتباطاتٍ قاهرةٍ استدعت احتجابي أيّاماً ثلاثة، لكنْ لم أعدم صديقاً هو القاصّ سليمان الفهد ليوجز لي وقائع حفل التأبين، فكان من المتحدّثين الشعراء والأدباء والدبلوماسيين: غيلان وغانم الشبلي وليلى محمّد وأحمد معين وحسن ناصر ومنير عبيدي وحسن حمّود الفرطوسي وواصف الشنّون وصلاح كريماني وجمال الحلاّق وظافر يعقوب ورزّاق الصفّار.  

وقيل: "صارت غربتنا حتميّة في غياهب الغالبيّات التي مِنْ شدّة تناغمها الطائع لا تقلق".   

وقيل: "المجد لمن رأى ولمن نأى".  

وقيل: "أوقفني في الرحمانيّة قال: أدخلْ في خرم الإبرة ولا تبرح، وإن مرّ عليك الخيط لا تمسّه،  وافرحْ، فإنّي أحبّ الفرحان ـ النفري".  

وقيل: " لا نريد أن نعود إلى عراق نفانا القائمون عليه مرّتين".  

وقيل: "نشأ في ظلّ اللافتات السود. حين جاءت الفرصة لم يتردّد ونفد منها".  

وقيل: "رحلة كمال في أوروبّا لم تكن سوى إجازة من إقامة أبديّة في العراق".  

وقيل: "لحق بشهيد الوجدان جان دمو".

لم يحضر حفل التأبين أكثر من مائتي عراقي جريح وحسب، إنّما حضر أيضاً وسط الحزن والغضب والعقل وغلالات النور عبدالله كوران وأراكون وأندرية بريتون والحلاّج والسهروردي وشيللي وألن بو وابن سبعين وإلوار ودعبل الخزاعي وثربانتس وشيلر ورامبو.

وأنتبهُ أخيراً إلى أنّي في فضاء لا بدّ وأن ألتقي كمال سبتي، وحقّاً التقيتُه، كان الدمع يطفر مِنْ عينيه، ويناجي "أطوار بهجت":

من بين كلّ تفاصيل الكوميديا السوداء في بلادنا يظهر "لابدَّ أن يظهر" وجهٌ ما، صوتٌ ما، يشيران إلى عراقٍ ما رائعٍ ومغيّب.
بعد تفجير قبة العسكريَّيْن اهتممتُ بأخبار ضحايا الثأر المتبادَل.
والأخبارُ عارٌ جديد يضاف إلى سِجِلِّ تاريخنا الكالح.
أبرياء يُقتَلون بلا ذنبٍ في عراق طائفيٍّ كما لم يكن ذات مرّة.
***
لكنَّ عصابةً قتلتْ أطوار بهجت أيضا.ً
الصحافيةَ ومراسلةَ الفضائيةِ التلفزيونيةِ والسامرائيةَ التي سبقت غيرها في الذهاب من بغداد إلى سامراء مع فريقها الفني لتغطي حادث التفجير تلفزيونياً.
لم اقتنِ الأجهزةَ التي تُظهِرُ الفضائيات العربية. ولا أريد أن أكسر قراري بعدم اقتنائها فآتي بها. لكنّ الانترنت أتاح لي أن أرى أطواراً مراتٍ قليلةً على شاشة الفضائية العربية وهي تنقل تقاريرها من مركز الحدث بذكاء لافتٍ النَّظر.
وكنتُ أفرح برؤيتها وسماع صوتها العراقيّ وتفوقها بعفويتها وذكائها على أخرياتٍ أكثر خبرة منها وأسعد حالاً في الحياة الشخصية، وفي أمان البلد!
وقبل قتْلها بساعات سمعتُها تتكلّم بفخر عن مدينتها سامراء الخارجة في تظاهرات احتجاجية من أجل العسكريَّيْن، فتقول بعد ذكر اسميهما: "رضوان الله عليهما"، ثم تخبرنا بأن رئيس الوقف السنّي وصل سامراء وتبرَّع بمبلغ من المال لبناء المقام المفجَّر.
فكانت إذن عُصارة جهد صحافيّ نَبِهٍ وشجاع وذي خبرة.
***
وأطوار المتخرجةُ في الجامعة ابنةُ رجلٍ متوفىً كان مديرَ مدرسة إعدادية في سامراء.
عملتْ مراسلةَ الفضائية اليمانية عندما وقعت الحرب على العراق، فعاشت خطرها.
ثم عملتْ مراسلةَ قناة الجزيرة بعد الاحتلال، ومراسلةَ قناة العربية.
وأطوار أصدرتْ ديواناً شعرياً أوَّلَ منذ سبع سنوات باسم "غوايات البنفسج".
تقول في لقاء صحافي معها: " كنت أكتب عن الحب فقط لكن من يوم احتلال بغداد ولحدّ الآن لا أكتب سوى عن الوطن الذي أشعر أنه سُرق في وضح النهار."
وتقول: إن الاحتلال غيَّرَ لهجتها في كتابة الشعر.
***
وهي "كانت" في التاسعة والعشرين من عمرها، وفي طريقها إلى الثلاثين.
***
ابنةُ الوسط الثقافيّ العراقيّ اختُطِفَتْ مساءَ أمسِ ثمَّ قُتِلَتْ صَبْراً فجرَ هذا اليوم.
وابنةُ الانفتاح العراقيّ غيرِ المذهبيّ اختُطِفَتْ مساءَ أمسِ ثمَّ قُتِلَتْ صَبْراً فجرَ هذا اليوم.
دموع من أجل الشّهيدة ومن أجل بنفسجها الغاوي.
وعارٌ آخَرُ لفكر البدو.
عارٌ آخَرُ لنا أيضاً.

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com