كان الدكتور صاحب الحكيم طبيبا للاسنان. تخلى عن مهنته وراح يتابع كل مايتعلق بانتهاكات نظام صدام لحقوق الانسان العراقي. ولمن لايعرف صاحب الحكيم اقدمه اليه" صاحب الحكيم طفل في نهاية الخمسينات من عمره.يتكلم كما لوانه في فرصة مدرسة. لاتكلف ولاتنميق ولا تزويق. ويعمل كما لو انه مايزال في مدرسة كلفته اصدار جدارية:جاد ونشيط ودؤوب, كما كنت انا حين يكلفني المدير اصدار جدارية للمدرسة تحوي على كتابات الطلبة ومعلومات عامة وغرائب وعجائب. غرائب وعجائب صاحب الحكيم لم تكن عجيبة ولاغريبة: انتهاكات صدام لخقوق العراقيين: قتل , تعذيب, تهجير, تجفيف اهوار, سجون, اغتيالات وماشابه من (يوميات) نظام عاش على هذه الانتهاكات.
لا اظن ان صاحب الحكيم ياكل كثيرا او ينام طويلا. فهو نحيف جدا ومايزال ذا عينين زائغتين تدوران كما لو انهما تحاولان القاء شعاعهما على الجميع.لم اعرف عيوبه جميعا, لكني اطلعت على واحد منها, وهو اكثرها عمقا ومدعاة للاسى: هذا العيب هو انه جاد ومخلص ونشيط ويتقدم الاخرين في العمل.انه لعيب لايحتمل من قبل كثير من العراقيين, خاصة السياسيين منهم.
ذات يوم, قبل أكثر من عشرة اعوام, اتصل بي صاحب(ابو علي) كما نسميه.كان يتحدث كما لو انه يريد ان يدعوك إلى مطعم مجاور. ببساطة من يقول لك( تعال , ادخل , لنتاول غداءنا) رغم ان المهمة التي يدعوني اليها هي : محاكمة صدام.
يا ابا علي انها لمهمة شاقة ان نطالب بمحاكمة صدام حسين في وضع عربي ودولي لايصدق ذلك. كان العام عام 1995 وحتى الديمقراطييين في البيت الابيض لم يفكروا بذلك. لكن ابا علي ديمقراطي اسلامي ومن بيت أخر غير البيت الابيض. لذلك راح يركض هنا وهناك, يجمع الناس, والمعدات(التي لم تكن سوى امكانية تقديم شاي ساخن في ايام شتاء لندن, ومظلات وخيمة تقي من امطار لندن الرهيبة احيانا, واوراق واقلام بيده سرعان مايهرع بها إلى الانجليو او إلى السياح الذين يترددون على اهم ساحات لندن(ساحة الطرف الاغر) من اجل اخذ تواقيعهم على المطالبة بمحاكمة صدام.
جمع الاف التواقيع. وكان قد اخذ تفويضا من الشرطة البريطانية المعنية بالتجمع ظهر كل سبت في ساحة الطرف الاغر, واضعا, كل سبت, صور التعذيب والانتهاكات, وممسكا اوراقه وقلمه, موزعا الشارة الصفراء التي تعود إلى رمز نشطاء حقوق الانسان على جميع الحاضرين, واحيانا يتقدم ليشحها بنفسه على عنق من يحضر.
كان صاحب يرفع لافتة اخرى. فكلما مضى اسبوع, راح صاحب بكتب رقمه على اللافتة اعلانا عن عدد الاسابيع التي تجمع فيها صاحب وعراقيون اخرون حتى وصلت الاسابيع إلى عدة مئات رغم البرد والمكر والحر والشمس . ولا اظن ان عراقيا مخلصا مر الة لندن وكان يوم السبت ضمن ايامه لم يحضر هذه التظاهرة: محاكمة صدام.
كان هناك رجل اخر لم يفارق سبوت المطالبة بالمحاكمة. انه ابو علي, ابو علي اخر, يدور على المستبردين بشايه الحار واحيانا بشوربة ساخنة.هو الاخر كان يحلم ياليوم الذي ياتي ليرى صدام في المحكمة.
كان حلما. كنت احضر بين فترة واخرى, حسب ظروفي وامكانية وصولي إلى مركز لندن. لكن كان هناك, على الدوام تقريبا, عبد الرزاق الصافي ايضا. الشيوعي القديم والبسيط الذي لم يغتن من الحزب ولم يستثمر تاريخه الا لكي يكون مخلصا, ولذلك فان اسمه الحزبي والمعروف به الان هو (ابو مخلص).
مرت اسابيع واسابيع ولافتة صاحب الحكيم ترتفع ارقامها حتى ظننا انها ستكون مدى العمر. تسع سنوات تقريبا وصلت الاسابيع فيها إلى أكثر من اربعمائة اسبوع حضرها صاحب الحكيم وهو يحلم ويحلم في ساحة الطرف الاغر تحت تمثال الاميرال نلسون قائد الاسطول الانجليزي الذي انتصر على اسطول نابليون في معركة ابي قير في مصر وفي معركة الطرف الاغر.
اليوم, افكر بصاحب الحكيم. انه يجلس في بيته يتابع مشاهد محاكمة صدام حسين من لندن.ذهب إلى العراق قبل ثلاث سنوات. وصادفته بعد القاء القبض على صدام في حفرته. ابو علي كان منشرحا طبعا. كانت لديه نكتة او اثنتان عن القاء القبض على صدام في الحفرة. كان هو هو: يتكلم بدون تزويق وبدون تكلف. لكن لماذا ظل صاحب الحكيم بعيدا عن المحاكمة؟
اعرف ان هناك اختيارات من قبل المسؤولين عن المحاكمة للاثني عشر عراقي في كل جلسة .يجلسون في الطابق الثاني يراقبون سير المحكمة وبينهم وبين قاعة المحكمة حاجز زجاجي. وقد حدثني صديق حضر احدى الجلسات هذه عن كثير من القضايا التي لايتمكن التلفزيون من نقلها.يومها تساءلت: ولكن لماذا لايدعى صاحب الحكيم ليرى بام عينيه حلمه الذي رافقه أكثر من اربعمائة اسبوع؟
لماذا يجلس صاحب الحكيم في بيته المتواضع في لندن يحدق بالشاشة وكانه لم يحلم يوما بمحاكمة صدام ولم يعمل عليها؟
كان في الواقع اول من نشط في هذا الاتجاه, واول من تحمل في هذا السبيل.اعرف انه لم يعد يعير الامر اهمية.فهو يشعر الراحة كاما التقيه. لقد راي الحلم يتجسد. لكن لماذا لايقترب صاحب الحكيم أكثر فاكثر من هذا الحلم؟ لماذا لايكون صاحب الحكيم شاهد اثبات باعتباره مراقب حقوق الانسان على مدى عشرين عاما, جمع فيها من الوثائق التي تدين صدام ونظامه ما جعلني ذات يوم من ايام 1995 , وفي معرض انتهاكات حقوق الانسان, الذي اقامه صاحب ودعاني لالقاء كلمة افتتاحه, اقضي ساعتين او أكثر محدقا بالوجوه الكثيرة والكثيرة جدا التي غيبها النظام.كان صاحب قد جمع المئات من صور اسلاميين وشيوعيين ومستقلين ومسيحيين وتركمان واكراد ومن نساء ورجال واطفال . جمع صور الضحايا دون تمييز.كان انتهاك حقوق الانسان العراقي بالنسبة له غير محدود ولايقتصر على جهة دون اخرى.
اليوم افكر من جديد بصاحب الحكيم. انه اولى من يكون في هيئة الادعاء واولى من يكون على خطوتين او اقل من الرجل الذي بذل مئات الاسابيع منتظرا ان يكون في قفص الاتهام.