|
الخطيب الحسيني .. كاسب أم داعية ؟ القسم الأول الدكتور طالب الرمَّاحي المنبرالحسيني هو من ثمرات الثورة الحسينية المباركة ، فلولا واقعة الطف وأبعادها الفكرية والسياسية و الإنسانية والمأساوية لما تهيأت للأمة فرصة إقامة المآتم ليصبح المنبر الحسيني محورا لتلك المجالس وفرصة طيبة لعرض المفاهيم الإسلامية المختلفة واستقطاب أسماع واهتمام الأمة، وليصبح الحزن الذي يتفجر في أيام عاشوراء دافعا لتذكر المأساة والأسباب التي أدت الى وقوعها ودراسة سلبيات المرحلة التي أوقعت المسلمين في إتون الظلم وهيأت الظروف الموضوعية للظالمين من أن يستحوذوا على مقدرات الأمة ويعبثوا بها . لم تك أيام عاشوراء من كل سنة أيام حزن وحسب أنما تحولت الى مواسم للتبليغ الإسلامي ونشر مباديء أهل البيت التي تمثل الإسلام المحمدي الأصيل الخالي من شوائب عصر الأمويين والعباسيين الذين أدخلا من البدع ما لايحصى لإضفاء الشرعية على حكميهما ،وتحول المنبر الحسيني الى جامعة متنقلة يستقي من معينها العلماء والبسطاء، كل ذلك بفضل ( الثورة الحسينية) التي هيأت للأمة فرصة لم تكن عند غيرها من الأمم . هذه الميزة التي تفرد بها مذهب أهل البيت تدعو الى الفخر ، لكن هل شاب هذه الخصيصة المقدسة شوائب ما، وهل نجح المسلمون الشيعة في استثمار ذلك استثمارا طيباً يتناسب وعظمة أو منزلة صاحب الذكرى بحيث يصبح الإستثمار هو فعلا مصداق من مصاديق نتاج الثورة ؟ إذا استطعنا أن نجيب على هذا السؤال بالإيجاب نكون قد فهمنا الثورة وأهدافها وقد سلكنا الدرب التي سلكها سيد الشهداء الذي أعطى حياته ودمه من أجلنا . فعندما تقام المجالس والمآتم ونُبدي على الحسين عليه السلام حزنا ، فنبكي ونذرف الدموع ، لا نفعل ذلك لمجرد الإحتجاج على مظلومية القتل ، فقبله قتل مظلوما أبوه سيد الأوصياء وأقرب الناس الى رسول الله ( ص ) ، والتاريخ يحدثنا عن أولياء ومقربين ورُسل قُتلوا ومُثِّل بهم دون ذنب ، ولكنَّا لانفعل ذلك مثل ما نفعل في (عاشوراء) على الحسين عليه السلام ، إذن هناك هدف كبير وأسمى من الإحتجاج أو الإدانة لعملية القتل والإعتداء تتعلق بما هو أسمى من الحسين وهو المشروع الإلهي الذي يجسد الرغبة الإلهية في تحقيق هدف ما على هذه الأرض ، والحسين عليه السلام كان ( وسيلة ) إلهية للإصلاح باتجاه تحقيق رغبة إلهية مهمة ، وهنا يكمن سر شخصية الإمام الحسين التي امتازت عن غيرها بطبيعة التضحية وسمو الموقف والإصرار على ذلك الموقف. ولذلك فإن التأكيد على استحضار مأساة كربلاء هو عملية إصلاح مستمرة في الواقع الإسلامي ، وهو يعمق (في وجدان الأمة) مفهوم أن اسئصال حاملي القيم لايهزم تلك القيم ، بل يزيد من حضورها ويرسخ الإيمان بها ويمنحها ديمومة ودفع جديد متجدد ، وهذا أحد وجوه (الغيب) الذي يستعصي فهمه على غير (مخلصي ودعاة الأمة الحقيقين) ، وهو لطف إلهي يحفظ الله من خلاله دينه (كجمرة متوقدة) ويحول بينها وبين أن تنطفأ حيث يطبق الظلم والطغيان على المجتمع ، ومن أجل أن نثبت أن الأمر إلهيا قبل أن يكون إرادة بشرية فإن التاريخ يذكر لنا أن الإمام الحسين عليه السلام قد (أُمِرَ) بالخروج الى كربلاء وهو يعلم أنه سوف يُهزم عسكرياً ، وكان يدرك أيضاً أن ثورته سوف تنتهي بمأساة كبيرة تطاله وتطال أخوته وأهل بيته وأصحابه ، وهو يدرك كذلك أن هذه الهزيمة سوف تشكل منعطفا تاريخيا يستنقذ الأمة ويستنهضها من سباتها ويضعها على الطريق الصحيحة التي رسمتها الإرادة الإلهية. يعتبر الخطيب الحسيني من أهم المعنيين بالثورة الحسينية وأهدافها وما يتعلق بها ، فهي ميدانه الذي يجول فيه ، وعليه فإن ثمة مسؤوليتين تحكمان مشروعه وهو يجول في ميدان الثورة ، الأولى : تعميق أحداث الثورة في وجدان المسلمين وما يتعلق بها من إشراقات تفردت بها وخلدتّها وحاولت الإلمام بأبعادها الزمانية والمكانية واستيعاب دقائق المواقف النادرة التي ميزتها عن غيرها من إثرة وصبر ومصابرة وتضحية ومواساة وإخلاص وغيرها من الخصائص التي كان لها دور في التأثير على الشخصية الإسلامية ، مع الإحتفاظ بأمانة النقل الذي يتحاشى التطرف أو المغالاة في نقل الحدث بما لا يسفه عقول السامعين ، أو يسفه عقله عند المتلقين. والمسؤولية الثانية : هو التعريف بالمفاهيم والقيم والمباديء الإسلامية العامة والتي هي من أهداف الثورة الحسينية ومحاولة تعميق مداليلها في وجدان المسلمين بعد أن واجهت محاولات طمس متعمد خلال كل مراحل التاريخ الإسلامي ، وهي ما زالت تواجه الكثير من استخفاف النفوس البشرية ، فجاءت الثورة الحسينية لتعيد صياغة تلك المفاهيم والقيم وتزيح الركام الهائل من الشبهات التي خلّفها النظام الأموي ووعاضه من علماء السوء الطائفيين وأطروا العقلية العربية ومالوا بها عن الدين نحو المصالح الآنية والدنيا ولذاتها. لقد استطاع بعض الخطباء أن يحققوا بعض النجاح ضمن حدود المسؤولية الأولى ، حيث شهد المنبر الحسيني تحسناً واضحاً خلال القرن الماضي ، فعمَّق مفهوم الثورة في الإذهان ، واتسعت تبعا لذلك المساحات الإجتماعية التي تقام عليها المجالس ، فكبر وجود الثورة الحسينية في العقول والقلوب حتى اصبحت تهدد الوجود الطائفي للحكومات العراقية المتعاقبة . وبرزت اسماء لامعة للمنبر الحسيني أثارت فزع أعداء أهل البيت مما دفعهم للتحالف مع الحكومات من أجل تحجيمها أو طردها خارج العراق ، وقد نجحوا وانتقل أغلب الخطباء الى الخارج. لكن هل حقق الخطيب الحسيني في نطاق مسؤوليته الثانية ماحققه في الأولى ؟؟ لقد اتسعت ظاهرة المجالس في وقتنا الحاضر وأصبح الخطيب تبعا لذلك (عملة نادرة) لزيادة الطلب عليه . فهل اقترن هذا النجاح في الكم بنجاح في النوع ، وهل تمكن الخطيب من أن يرتقي بالمنبر الحسيني الى مستوى طموح (العقيدة) و (المجتمع) فيعمق مفاهيم ومباديء الثورة الحسينية مثلما عمق وجودها وحضورها التاريخي و (التراجيدي) ؟ الإجابة على هذا السؤال ينطوي على الكثير من التحفظات ، لكن علينا أن نقدم لنبرر تلك التحفظات وسوف يرى القاريء الكريم الكثير من المثالب قد وقع فيها الخطيب بقصد أو بغير قصد . فالخطابة مسؤولية تبليغية ، ويشبه الخطيب في عمله (نسبيا) عالم الدين ، والإثنان يشتركان في قدسية العمل الذي يميل الى الآخرة على حساب الدنيا ، وتحكمهما الكثير من القوانين الإسلامية لطبيعة اختصاصهما في إرشاد الناس الى عمل الخير والزهد والتقوى والصدق والى آخره من المفاهيم الخيرة الآخرى ، وأول هذه القوانين هو: ( أن تبدأ بنفسك ) ، وقد تناول القرآن الكريم هذا القانون بإسلوب صارم حيث يقول : ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لاتفعلون ) وقد جاء هذا المعنى في حديث أحد الأئمة عليهم السلام حيث قال ( والله ما أمرتُ أحدا بشيء إلا وسبقته إليه ، وما نهيت أحدا بشيء إلا وسبقته في الإمتناع عنه ) ، فالخطيب إذن مثالا وقدوة ، أما إذا تحدث عن الكرم وهو بخيل ، وعن التسامح وصدره حرج ، وعن الإبتعاد عن حب الدنيا وهو أقرب إليها من حبل وريده ، هنا يقع الخطيب في دائرة النفاق والكذب ، وتصبح خطابته وسيلة للدنيا ولا علاقة لها بما أراده الإسلام ويدرج ضمن قائمة (الكسبة) الذين يتكسبون بالثورة الحسينية . والقانون الثاني : (حرارة الموت والحياة في مواضيع الخطابة) . فالمعروف أن الأصل في الأشياء هو (الحياة) أما الموت فهو محطة انتقال الى الحياة الأخرى (الحيوان) كما عبر عنها القرآن الكريم ، فهل أدرك خطباؤنا هذا المعنى ، وهل أولوا اهتماما خاصاً بالحياة بكل مفاصلها وميادينها الإنسانية كالطموح وزرع الآمال وحب الآخرين والحرية والصحة وتنمية القابليات الخيرة لدى النفس البشرية ؟ فالإمام الحسين استشهد من أجل أن نحيا في كرامة أولاً ثم أن نموت في كرامة إذا استوجب الأمر ، نعم نموت عندما تستوجب الحياة لنا أن نموت وليس العكس ، والموت في فلسفة الثورة الحسينية طريق للحياة ، ولذا فإن من أكبر المثالب التي يؤاخذ عليها الخطيب هو أن يبدأ بقصيدة من وحي الموت وتنتهي ( بمصيبة ) وما بينهما حديث حافل ببطولات يزكم فيها القتل وإطاحة الأيدي والرؤس أنوف السامعين . القانون الثالث : (لا مقابل مادي مفروض للوعظ أو الدعوة) . يشترك الخطيب و ( المحامي ) في أن كلاهما يقدمان الوعظ والنصيحة ، إلا أن المحاماة من المكاسب الدنيوية حيث يستوجب على متلقي النصيحة أن يدفع ثمنها وهذا عرف اتفق عليه المجتمع ، ولعل ثمة ما يبرر ذلك وهو أن المحامي قد جد واجتهد ودفع أموالاً طائلة من ماله الخاص حتى حصل على شهادة اختصاص ، ثم أصبح مصدر رزقه ومايحصل عليه من ممارسة عمل المحاماة . أما الخطابة فهي ليست من المكاسب الدنيوية بل هي أقرب الى المسؤولية الدينية ، كما أن الخطيب قد درس ونشأ وترعرع في الحوزات الدينية التي يُصرف عليها من ( الأموال العامة ) أو الحقوق الشرعية ، وهذا لا يعني أن الخطيب عليه أن يعمل بلا مقابل ، فعلى المؤسسة الدينية ( مرجعية أو مؤسسات خيرية إسلامية) أن تحدد له ما يغنيه في معيشته ومعيشة عيالة وبما يليق به ، لكن لا يجوز أن يطلق له العنان وكما هو متعارف عليه اليوم من تسابق محموم على من يدفع أكثر ، وخاصة في شهر محرم حيث يطلق عليه ( بالموسم ) . إن ظاهرة التكسب بالثورة الحسينية وبدم الإمام الحسين لمن الظواهر السلبية التي شاعت بين أوساط خطبائنا وأساءت للخطيب الذي يتعاقد مع أكثر من مكان مقابل مبالغ هو يحددها ، وقبل ذلك كان قد سجل اسمه لدى مكاتب المراجع أو المؤسسات الدينية ليحاسبهم بعد عودته . هذه الطريقة الجشعة أخرجت الخطيب عن نطاق مسؤوليته في الوعظ الديني وأدخلته في دائرة التجارة الدينية ، وأقبح ما في الأمر أن يجعل الخطيب دم الحسين وثورته وتضحياته وسيلة لجمع المال. ولعل من الفائدة أن ندرج مثالاً ( للخطيب الحسيني ) وهو خطيب بارع يكنى ( حسين الوقف ) ، ففي الستينات من القرن الماضي كان هذا الخطيب يحصل قوته من دكان صغيرة في أحد أزقة النجف الأشرف ، وعندما يحل شهر محرم وصفر ، تراه ينشط متنقلاً ليلاً ونهارا بين أحياء المدينة ، يقرأ المجالس الحسينية طيلة الشهرين وعندما يهم أحد من مقيمي المجالس الحسينية ليعطيه شيئا من المال ، يبادره مبتسما : أترى مثلي يصلح أن يتاجر بدم الحسين ، كلا لقد أوقفت نفسي لسيد الشهداء في هذين الشهرين من كل سنة ، ولن أرضى أجر غيره ...... للمقال بقية إنشاء الله
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |