بسبب العداء المستحكم بينهم وبين الشفافية، والحقيقة، أطلق الأعاربة لفظة "النكسة"، على الهزيمة المذلّة، والنكراء التي ألحقتها بهم الدولة العبرية. وفي الحقيقية، فمن يتمعن في أسباب، وبواعث تلك "النكسة"، سيلاحظ أنها كانت نتيجة منطقية لحقبة مفعمة بالجعجعة الثورية، والجعير الناري، والزعيق القومي الفاضي الذي لم تدعمه أية بنية تحتية سياسية، ولا اجتماعية، ولا اقتصادية يمكن التعويل عليها في مثل هكذا حالات، ومراحل وطنية تاريخية تعبرها الأمم. كما أن الحرب الإعلامية السابقة لهذه الحرب العسكرية، لم تنطو، في الحقيقة، سوى على مهازل حقيقية، ومعارك دونكوشوتية، ومواجهات خلبية مع السراب، والعدم، وكان فيها النصر الحاسم فيها، وطبعاً، لأبواق الأعاربة، وإذاعاتهم الكاذبة.
ولقد أصابت تلك "النكسة" الوجدان القومي العربي في الصميم وعرّته، وفضحت زيف كل تلك الشعارات البرّاقة التي وثب من خلالها الثوريون الأشاوس على كراسي الحكم. ونصبوا من أنفسهم حماة للحمى، ودعاة للوغى، وشتى أنواع النزالات الضبابية. واستفاق الجميع على صدمات وطنية مرعبة، بعد أن خدّروا، ولفترة طويلة، بشتى أنواع الدجل، والادعاءات، والأقاويل. وساد نوع من الصمت، والدهشة، أعقبه حركات مسرحية من هذا النظام، أو ذاك، كالتلويح باستقالة البعض، أوعبر محاولة إعادة هيكلة الأنظمة العسكريتارية، وفق بنية خطابية جديدة "فقط"، لتتلائم مع مرحلة ما بعد "النكسة". فيما اعتبر بعض خوارق الفلسفة الساسية أن العدو لم ينتصر في تلك الحرب بسبب عدم قدرته على إسقاط تلك الأنظمة النادرة، وأنها بقت رازحة على رقاب، وكواها تلك الجماهير المنكوبة. وبالتوازي مع ذلك كله، ساد هناك نوع من الرغبة الشعبية العارمة بالانتقام من هذه الأنظمة التي جرت إلى مستنقع الهزائم، والضياع، والتيه الوطني العام. إلا أن القبضات الأمنية الحديدية كانت بالمرصاد، ووقفت حائلاً دون أن تتمكن تلك المشاعر الجيّاشة بالتبلور بأي نوع من الاحتجاج، أوالعمل السياسي العام، والمؤثر. ولن نتوغل بعيداً في هذا الجانب التحليلي الهام من تشريح اسباب ونتائج "النكسة"، التي أصبحت ذكرى جميلة طيبة، ومرحلة ساطعة في تاريخ الأعاربة الأأفذاذ، أمام ما سنراه لا حقا من خزعبلات سياسية، وانحلال وفضائح سلطوية، ومقارنة بسلسلة الهزائم النكراء، والاندحارات الوطنية الفاضحة السوداء التي تلك تلك "النكبة" القومية.
ولا يسع المرء وهذه الحالة المزرية التي تعيشها مختلف الشعوب العربية شرقاً، وغرباً، ومن المحيط إلى الخليج فقط، إلا أن يتمنى أن تكون تلك "النكسة" قد توقفت عن تداعياتها وحدودها العسكرية تلك، ولم تحصل الانتكاسات المتتابعة التي أحالت الأوطان إلى أفران مستعرة، ومراجل تغلي بشتى أنواع المشاكل الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، بحيث أصبحت الهزائم العسكرية تحصيل حاصل لهذا الواقع المتهافت، والذي يتحلل يوماً بعد آخر. ولعل دخول القوات الإسرائيلية إلى عاصمة عربية في بداية ثمانينات القرن الماضي، ودخول القوات الأمريكية إلى بغدادج عاصمة الدولة العباسية التي يتفاخر الأعاربة بها في تاريخهم "المجيد"، قد جعلا من "نكسة حزيران" رحلة سياحية لجيش الدفاع، وحتوتة حلوة ترويها الجدات للصغار قبل النوم عند المساء. وكل ذاك كان بسبب سياسات الاستبداد الممنهج، والقمع المنظم الذي درجت عليه تلك الأأنظمة العجيبة، واتخذت منه سبيلاً، وطريقاً للحياة.
كما أن الخسائر القومية المعنوية، والمادية الفادحة التي ألحقتها النظم الملتحفة بالغطاءات القومية المختلفة ببلدانها، لا تعادل شيئا أمام ما ألحقته الآلة الحربية الإسرائيلة اثناء توغلها باتجاه سيناء، والضفة الغربية، والجولان. والأنكى من ذلك كله أن تلك الأنظمة المستبدة استخدمت ورقة "النكسة"، وتوابعها السياسية الارتدادية كورقة ضغط على الشعوب، وقميص عثمان، وعباءة نضالية تتوشح بها أثناء الخطب الحماسية أمام الشعوب الجائعة، والمضطهدة. ويوما بعد آخر تجد هذه الشعوب نفسها تحشر في زوايا أشد ضيقاً، وبؤسا عما كان عليه الحال أيام "نكسة" حزيران. وفي الواقع لم يعد لتلك الذكرى أي وقع مؤلم في النفس بعد أن أحدثت ممارسات الاستبداد وتوغله شروخا عميقة في أعماق هذه الشعوب المنكوبة.
مسلسل الهزائم ، والنكبات، والنكسات مستمر ولن يتوقف عند حدود "نكسة" جزيران، وما لم تغيّر تلك الأنظمة المتوحشة، من بطشها وأساليب تعاملها البدائي والطائش مع شعوبها فلن تكون "نكسة" حزيران سوى عيداً وطنياً، ومناسبة للفرح، والاحتفال، أمام كم المآسي والأأحزان التي تخلفها يومياً أنظمة الاستبداد.