موت الزرقاوي يحيي تبرير الهزائم
قبل أيام مرت ذكرى هزيمة ونكبة 5 حزيران يونيو1967 ، يومها أول العرب الأحداث بخطاب يبرر الهزيمة و يحولها إلى نصر من منطلق بقاء الأنظمة الحاكمة فوق عروشها دون أن تتزعزع . و أفهمونا يومها نحن الغر يرون المقتنعون بعز العرب ووحدتهم وقوتهم التي لا تهزم بأن خسارة جولة لا تعني خسارة المعركة .
بعد ما أوشك نصف قرن على ذلك التاريخ لم نربح المعركة ومازالت الهزائم و النكبات تتوالى وما زال الانتصار قائما ببقاء الأنظمة نفسها تتولى تسيير شؤون الأمة حتى بلوغ النصر المؤزر ودحر المحتل الغاصب مهما طال الزمن ومهما سقط من أرض ودول في براثنه .
و رغم سقوط النظام هذه المرة في العراق إلا أن إرادة المقاومة و الجهاد لم تسقط وستنتصر يوما ما ، و سنتحول من حربنا المحدودة ضد الأعداء ، إلى
حرب أممية بين الحق و الباطل ، بين الخير و الشر ، بين العرب المسلمين و الكفار الصليبيين المسيطرين على أقوى و أغنى دول العالم . النهج نفسه و الخطاب ذاته لم يطرأ علية تبديل أو تغيير ، بل زاد في ادعائه و هروبه إلى الأمام بتوسيع دائرة الأعداء و فتح جبهات جديدة و غلو في تزييف الوعي و انغلاق في إيديولوجيات راديكالية لا تعرف سوى الحق و الباطل و الفرقان الفاصل بينهما .
وتحولت المعركة من صراع على الأرض و البقاء في أعظم حالاتها إلى صراع قيمي مبدئي على الأفكار و العقائد التي لا تنتهي إلا بدخول الطرف المعادي في منظومتنا الإيمانية أو خضوعه التام تحت رايات هدايتنا و نورنا . أو أن ينتهي الصراع بزوال وموت أحد طرفي النزاع .
وفقا لذلك المنطق ودرجا على مسيرته توجه الآلاف من المجاهدين المزعومين من شتى بقاع الأرض و خاصة من بني العرب نحو العراق لقتال الكفار وحرب المشركين . استقطبتهم أسطورة الرجل الخارق بلباسه الأسود و لحيته السوداء و سلاحه الذي لا يفارق يمينه . شخصية كاريزمية شعبية أشبه بصورة الرجل الخارق في الغرب " السوبر مان " الذي لا يقهر يمثل الخير المطلق في مواجهة الشر المطلق .
كانت صدمة غير قابلة للتصديق عندما أعلن نبأ القضاء على أشهر مطلوب في العالم بعد ابن لادن , وانتظر الموالون حتى يتأكد الخبر بالدليل القاطع من جهة موثقة معروفة بانتمائها و مصداقيتها ، وهي في هذه الحالة بيانات القاعدة على الشبكة.
انتهى الأمر و تأكد النبأ و توالت و تنوعت أشكال التعامل معه .
من خلال متابعة مباشرة ولصيقة لحادثة مقتل زعيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين أبو مصعب الزرقاوي، يبدو بجلاء اختلاف ردود الأفعال إلى حد التناقض فبينما كان الدكتور نوري المالكي يعلن مقتله ويتوعد الإرهابيين في العراق علت الزغاريد وأصوات الفرح في قاعة المؤتمر الصحفي ، وانتشرت الأهازيج في معظم شوارع العراق فرحة وبهجة.
في الجانب الآخر لم تخف مصادر إعلامية حزنها وخسارتها بمقتل زعيم الإرهاب في العراق ، عبد الباري عطوا ن المستشار و الأب الروحي في قناة الجزيرة ظهر على شاشتها بعد الحادثة بقليل حزينا لا يخفي التأثر و الأسى على موت المجاهد الكبير ، وجاء تعليقه منسجما مع خطه العام في حجب الصورة الحقيقية و التركيز على جوانب معينة خدمة لغاية لم تعد مجهولة لدى الكثيرين ، فأكد وجود أعداد من ضحايا من المدنيين جراء العملية الجوية التي أودت بحياة الزرقاوي وستة آخرين ، فيما لم يذكر أي مصدر أخر شيئا عن وجود ضحايا آخرين ، و تحدث عن حرب أهلية دائرة في العراق بدون تحفظ أو استثناء ، ثم أجاب على تساؤل محاوره عن دور الإعلام الأمريكي في استغلال الحادثة لصالح الدعاية السياسية لإدارة بوش . إلا أنه لم يذكر شيئا عن أبرياء و ضحايا من بني البشر ذبحهم تنظيم القاعدة بدون شفقة ولا رحمة .
لم يكن الزرقاوي وهماً ولم يكن صنعة غربية ولم يخرج من رحم صليبية، لم ينشأ ويترعرع في مدارس وجامعات الإنكليز والأمريكان. لقد كان ملاحقاً من قبل العدالة الأردنية لأعمال إجرامية لا علاقة لها سوى بعصابات الإجرام ، سجن وتحول في السجن من قاطع طريق إلى مجاهد. خرج من السجن والتحق بالمجاهدين . لم تفترق نهايات معتقداته عندما كان مجرماً بدون توجهات دينية عنها بعد انقلابه إلى مجاهد وغاز ، تابع الإجرام ولكن بوتيرة أشد وأعنف.
متزوج من ثلاث نساء قضت إحداهن مع طفلها في رحلته الأخيرة.
ألم يكن يدرك الزعيم المحنك والقائد الملهم كما يدعوه وما زال أصحاب التكفير والتهجير ورافعوا رايات الغزو، ألم يكن يعلم أنه في حالة الخطر الدائم عرضة للموت في أية لحظة حتى يستبقي زوجته وطفله الرضيع في بؤرة الخطر.
حماس وأساتذة جامعيون وخطباء مساجد، شعراء وكتاب حزنوا على موت القائد المرعب ، قلة من أبناء حيه أقاموا عرساً للشهيد حضره زمرة من الجيران الإعلام الرمادي أصبح إنسانياً لا يفرح لموت إنسان ويعتبر حياة البشر فوق الضغائن والأحقاد . في حين كان يعد موت العراقيين في المشافي والمدارس والمساجد والحسينيات مقاومة وجهاداً.
حلم الزرقاويون القاعدي ون وبعثيي صدام بتقسيم العراق وبناء إمارة طالبان الجديدة في جزء منه يتولى قيادتها المجاهدون العرب يطبقون اجتهادا تهم وقناعاتهم الموغلة في التطرف على أبناء العراق كما فعلوا مع الأفغانيين وتمكنوا من السيطرة على أجزاء مهمة واتبعوا أسلوب الترغيب والترهيب ،قاتل واقتل وانتحر فإما الجنة وإما الثواب المادي وإذا عصيت ولم تلتحق بركب الغزاة المجاهدين تقتل .
وقعت مجموعات لا يستهان بها من العراقيين بين نارين نار قوات التحالف والدولة العراقية التي تحارب الإرهاب وبين نار المجاهدين العرب ، وكانوا الخاسر الأكبر في هذا الاحتراب . وعندما وقف سنة العراق إلى جانب وطنهم ومستقبل أبنائهم ، أعمل فيهم الزرقاوي قتلاً وذبحاً وتدميراً وأدخلهم في آتون صراع طائفي أججته أطراف خارجية أخرى وفئات أصولية خاضعة لتنظيمات متطرفة تدعي اختلافها عن القاعدة لكنها تمارس نفس الطريقة في إقصاء الآخرين بالقتل و التهجير. وقبل موته بأيام شن الزرقاوي في شريط متلفز ، حرباً على كل المخالفين له من العراقيين سنة و شيعة وعد كل خارج على منهجه كافرا أو مرتدا يستحق الموت دون مراجعة أو نقاش أو استتابة كما جرت العادة لدى التكفيريين قبل تنفيذ الحكم .
انتهت و قضت أسطورة الزرقاوي ، تبنى تنظيمه بعد يومين خمسين عملية إرهابية انتقاما لموته ، ذهب ضحيتها عشرات الأبرياء من العراقيين الذين كان يعدهم المجاهدون المزعومون كفارا أو مرتدين أو موالين للصليبيين . لم يسقط جندي أجنبي واحد في تلك العمليات الانتقامية وهذا يعني أن حرب أنصاره موجهة نحو العراقيين في الدرجة الأولى بغض النظر عن مذهبهم و جنسهم وعرقهم يكفي أنهم أعداؤهم العراقيون الذين لم يقدموا العراق قربانا للعنف و الطيش و الإرهاب .
الأصوليون يتحدثون عن العبرة و الحكمة والامتثال بالتاريخ و نهاية الطواغيت ، أليس في نهاية القائد المهاب بهذه الطريقة المهينة وعرض صورته أمام العالم عبرة و عظة تستوجب مراجعة الدوافع و الغايات لمدارس عقائدية و فقهية مازالت تؤجج العنف و تمجد الموت.