لكيلا يعود المسلمون جاهلية آبائهم الأولين

 محمد سعيد المخزومي

almakhzumi2@hotmail.com

على كِبَرِ حجم هذه الأمة وتعدادها، وعِظَم ِ ما فيها من موارد كثيرة وخيرات وفيرة، وتراث جم، وفطاحل حضاريين، تجدها مبعثرة، تتهالك عليها الأمم، وهي تستجدي منها العون، وتلتمس النصر، وتستعطفهم من أجل الخلاص... وتلك نتائج لا تنسجم وحقيقة ما قد سلف من مقدمات الخير التي فيها وعندها وبين يديها.

وهنا لا يقف عمالقة الفكر حائرين أمام تحديد مواطن الخلل في الأمة، بل الذي يقف حائرا في البحث عن حقيقة الأسباب الكامنة وراء هذا التردي السياسي، والتشرذم الاجتماعي، والترهل الاقتصادي، والتقهقر الثقافي الكاشف عن فداحة التخلف الحضاري الذي عليه الأمة هم عامة الناس، وحينما أقول عامة الناس فإنما أعني بهم الأميين الذين لا يستوعبون حقائق التاريخ ومنطق الحضارة ولغة الحياة، وهؤلاء كثير وإن تجد فيهم الدارس والأستاذ والدكتور والمتخصص في علوم الدين وغيرها، ذلك لأن الأمّية المدمرة هي أمّية الفكر والثقافة والفهم لا أمّية القراءة ولا الكتابة .

وهذه هي عين الجاهلية التي يجب على المسلمين تحديد مواطن الضعف والقوة الحقيقية فيها، وتشخيص مكامن الضعف الذي ما زال ينخر في كيانها، لكي تتمكن من إزالتها. وذلك لمن يريد العودة إلى الحياة.

تلك الجاهلية التي كان وما زال من أبرز معالمها النشاط العكسي والمشبوه في الحياة الذي عليه عامة هذه الأمة التي إذا ما أرادت أن تنشط سياسيا على سبيل المثال تراها وقد بحّ صوتها تهتف ليل نهار بهتاف:

(بالروح بالدم نفديك يا كافر) والكافر هو حاكمهم ناسين أن الله قال لهم ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) ([1]) لكفرهم بكل القيم الإنسانية .

ثم تراها وقد انتفخت أوداجهم بهتاف ( بالروح بالدم نفديك يا ظالم) وقد جعلوا أصابعهم في آذانهم حذرا من قول الله تعالى ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) ([2])  وكافة حكامهم ظالمون لأنفسهم وشعوبهم وهم جهلاء لا يعقلون.

وكانت وما زالت تصيح ومعها وعاظ السلاطين بهتاف ( بالروح بالدم نفديك يا فاسق) وقد غشوا رؤوسهم وصمّوا آذانهم حذرا من أن يسمعوا قول الله الصادح في وجدان الإنسانية  (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) ([3]

وتحت ضلال هذه الهتافات السياسية المحمومة التي كانت تكشف عن مشروع محموم يهدف ذبح الأبرياء وكل دعاة الحق والكرامة والحرية، كانت وما زالت حكوماتهم تدأب على ذبح الإنسان في غياهب السجون والمقابر الجماعية ومفارم لحوم البشر التي أعدتها نظم الديمقراطية والاستبداد على حد سواء وقدمتها بطبق منمق لحّكام الجور في هذه الأمة . ومع كل هذا وذاك (ترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد) ([4])

حتى إذا تزحزح الصنم عن مكانه والتجأ إلى حفرته، هاجت جموع الهاتفين لهذه الأصنام لتمارس دورها من جديد في ذبح الإنسان وتدمير المجتمع، ولكن هذه المرة من خارج السلطة، وتحت ستار المقاومة(!) والتحرير(!) والعروبة (!) وأمثال هذه المسميات كثير.

هذا إذا أرادت الأمة أن تنشط سياسيا في هذه الحياة المحمومة.

أما إذا أرادت أن تنشط (دينيا) فتراها تمارس سياسة الذبح بالسيف وقطع الرقاب بالجملة، وبقر بطون النساء الحوامل وذبح الطفولة البريئة بسيف الدين لتنتقم من كل محب لنبي الدين وأهل بيت نبي المسلمين، ومع هذا وذاك فإن جماعات علماء المسلمين (!) تتهالك في مدهم بالغطاء الشرعي تارة، وبالدعم الصريح أخرى، وثالثة من خلال التنديد المبطن بهذه الأفعال، ورابعة بالخطاب المغلف، وإلى أشباهها من وسائل تبرير ممارسات العنف والتدمير باسم الدين والسنة النبوية وجيوش الإسلام وأنصار الصحابة وأحزاب التحرير ومنظمات انتهاك الأعراض والحرمات والتعدي على العتبات المقدسة والانتقام من الإنسانية تحت غطاء حماية (السنّة) (؟) وإقامة  الخلافة (؟) في هذه الحياة .

وقد ضرب الله تعالى مثل هؤلاء: (بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) ([5])

 من هنا فقد رأيت أن أبين في هذا البحث سبيل العودة إلى التحضر ومناهج الحضارة التي أمر الله بها لتعيش الأمة حضاريتها وإنسانيتها كما ينبغي، ويتضمن البحث الكشف عن حقيقة العودة إلى الحياة ونبذ المسارات المعوجة التي ذهبت بالبشرية المعذبة والأمة المتردية يمينا وشمالا نحو الهاوية والسقوط جيلا بعد جيل.

فكان ذلك ملخصا بقراءة الواقع من زاوية التاريخ المر، وأرضية المنطلقات الفكرية الهجينة التي شكلت عماد الثقافة الدينية والمنطلقات السياسية لعموم هذه الأمة، وذلك من خلال التركيز على كشف الأسرار التالية المؤدية بها إلى الانطلاقة الحضارية والتخلص من مخالب الفكر الجاهلي المتعشعش فيها، فكان من تلك الأسرار ما يلي:

 

 السر الأول في قوّة المسلمين يكمن في وحدتهم

الأمة من حيث مقومات التحضر تجدها متوافرة متميزة فيها، كالأرض الواسعة وثرواتها الكثيرة والفكر السليم، ومنابعه وعمقها، والإنسان وكثرته، ومع هذا كله نراها متردية متدهورة، ونجد المسلمين متخلفين متقهقرين، والسبب في ذلك فقدانهم العنصر الجامع لهذه المكونات الأساسية لتحضر الأمم، وذلك هو عنصر الاجتماع الحضاري الفاعل، فهي أمة متفرقة، متمزقة، متشرذمة .

وسبب ذلك يعود إلى عاملين أساسيين :

أولهما: الانسياق وراء النزعات النفسية والتي اتخذت طابع المنهجية العلمية في الحياة السياسية ثم أضيف إليها مسحة التحضر ليقيموا عليها صرح الحياة، كالقومية والتعصب لها ولأمثالها مما يمزق الإنسان ولا يجمعه مع الآخر حتى لا يشكل معه الأمة الواحدة.

وقد حرّم الله تعالى اتّباع الأهواء النفسية وعدّه من الشِرك الفاضح فقال: ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم  وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون) ([6]) .

أما العامل الثاني المساعد على فقدان الأمة اجتماعها هو انسياق المسلمين وراء زعماء سياسيين قادوهم نحو أهواءهم وتطلعاتهم ومناهجهم الخاصة بهم، لا نحو الاجتماع والتمحور على التحضر والحياة، وقد نهاهم ربهم عن ذلك وحذرهم مغبة هذا الإتباع فقال: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبع السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلك وصاكم به لعلكم تتقون) ([7])  .

ومع كافة هذه التحذيرات فقد انساقت الأمة بعمومها إلى هذين العاملين ففقدت استثمار عامل الكثرة العددية وخسرت عامل الوفرة في الأرض وتنوع خيراتها، وفرطت بعامل الفكر الوقاد والاعتقاد الإنساني الوهاج، فصارت هذه الأمة الكبيرة خاضعة للأمم التي صارت تتداعى عليها كتداعي الأكلة على قصعتهما. والأنكى من ذلك كله صارت تأكل رجال الحضارة وتطحن عمالقة الفكر وتسحق عظماء البناء الإنساني المنشود.

 ومع هذا وذاك فان المسلمين وبإتباعهم الهوى صاروا يتعصبون لتلك الأهواء التي اتخذت طابعا (مدنيا) (كاذبا) كالقومية والإقليمية والعنصرية، كما أضفت عليها طابعا (دينيا) (مقدسا) كالتعصب للطائفة على حساب الأخرى ولو كانت على حق، وقد نهاهم الفكر الحضاري عن التعصب والتبجح بهذا المنطق فحرمه عليهم، بل أخرج الإسلام كل من تعصب لشيء أو تُعصّب له عن حقيقة الانتماء لهذا الدين فقال: (من تعصب أو تُعصّب له فقد خلع ربقة الإسلام من عتقه) كما في نص الإمام الصادق عليه السلام ([8])

علما أن خلع ربقة الإسلام تعني الخروج من الإسلام إلى الجاهلية وقد أوضح ذلك أئمة أهل البيت عليهم السلام حتى لا يلتبس على الناس هذا المفهوم فقال الإمام الصادق سلام الله عليه : (قال رسول الله "صلّى الله عليه وآله ": من كان في قلبه حبة خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية) ([9])

فعمد طلاب السلطة وتجار السياسة الدولية على طول التاريخ إلى تمزيق وحدة المسلمين لأنهم اكتشفوا أن سر قوتهم يكمن في وحدتهم، وإذا قويت الأمة الإسلامية أزاحتهم عن مطامعهم، فعندها عمدوا إلى تجهيل المسلمين ليسهل استعباد إنسانهم فكريا وثقافيا وليتمكنوا من استثمار خيراتهم.

 ولكيلا يغتاظ أحد ويكابر تجاه قولي أن المسلمين أمة جاهلة متردية، عليه الإذعان إلى قول رسول الله فيهم يوم أعلن عن تداعي الأمم المتحدة عليهم لا لقلة فيهم ولكن لعدم التزامهم بأوامره لهم، فقال صَلَّى الله عَلَيةِ وَآلِهِ وَسَلَّمَِّ : ( يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها !

فقال قائل : ومن قلة نحن يومئذ ؟

قال : بل انتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزَعَنَّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن  .

فقال قائل : يا رسول الله ، وما الوهن ؟

قال : ( حب الدنيا وكراهية الموت ) ([10]) .

 ويتجلى حب الدنيا في التهالك على الرئاسة والتسلط والتحزب على حساب الإنسان والمجتمع والتفاني من اجل مكاسب خسيسة زائلة ما نفعت الطواغيت الذين بين أيديهم يوم أقصى الأشرار منهم  الأخيار، حتى تطور الأمر إلى انتهاج سياسة الذبح والإبادة والتفنن في انتهاك الحرمات والمقدسات، وها هي الأمم يدعوا بعضها بعضا لتلتهم أُكلهم والقوم في سكرة الانهماك على الدنيا غافلون .

 وبعد هذا فأي تردٍ اكثر وأوضح من التردي الذي بين أيدينا ؟  وأي جهل أجلى من هذا الجهل الذي نراه بأم أعيننا ؟ وما ذلك إلا بسبب تفرقهم وهم غثاء كغثاء السيل.

 من هنا يجب القول في أن السر في قوة المسلمين هو وحدتهم التي تصنع منهم أمة حضارية راقية تتراكض وراءها الأمم لتتعلم منها دروس الحياة. الأمر الذي اكتشفه أعداؤهم قبل أن يكتشفه المسلمون أنفسهم، فكادوا لهم قبل أن ينتفعوا من مصادر قوتهم.  

وبالتالي فلكي تكون عامة هذه الأمة متحضرة ولا يعودوا إلى الجاهلية الأولى عليهم العمل بقانون الأخوّة القائل: (إنما المؤمنون اخوة) ([11])  وليسوا أعداءا يذبح الجَشِعُ منهم المسالم الوادع ولا يستفرد النهم للسلطة والتسلط بالعاقل العامل من أجل البناء والحياة والاستقرار.

وبهذا البيان القرآني يكون الله تَعالى قد حصر بيان حقيقة الإيمان التي لا تتجسد إلا (بالاخوّة) وحدها وبالعمل بها وعليها، وإذا أدرك المسلمون معيار الأخوّة صاروا أمة قوية تهابها الأمم وتحترمها الشعوب.

ولكن الأمر يحتاج إلى توفر عنصر يمكّنهم من تحقيق الوحدة فيهم وذلك هو مفاد سر آخر يلزمنا البحث فيه وهذا ما سيكون بحثنا في الحلقة القادمة إنشاء الله.  

 


[1] - سورة المائدة/ آية 44

[2] - سورة المائدة/ آية 45

[3] - سورة المائدة/ آية 47

[4]  - سورة الحج / آية 2

[5] - سورة الكهف / آية 103 -  104

[6] - سورة الجاثية / آية 23

[7] - سورة الأنعام / آية 153

[8] -  الوسائل  ج11، ص296.

[9] - المصدر السابق.

[10] - سنن أبي داود - ابن الأشعث السجستاني ج :2   ص: 313

[11] - سورة الحجرات / آية 10

 

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com