بغداديات .. الشيني

بهلول الكظماوي / أمستردام

bhlool2@hotmail.com

بسم الله الرحمن الرحيم

انّ الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثمّ ينبئهم بما كانوا يفعلون . صدق الله العلي العظيم .

عبّاس الشيني، كان شاباً يافعاً في مقتبل العمر ولم يتجاوز السبعة عشر ربيعاً, كان يدرس في الصف الخامس الثانوي، القسم العلمي، فقير، يتيم، فقد أباه وهو لم يكن قد تجاوز الثانية عشرة من العمر.

ومع ذلك واصل دراسته وظلّ مواظباً عليها

وحينما حانت العطلة الصيفية للمدارس ظهر عباس عندنا في سوق باب الآغا التجاري وافتتح بسطة هي عبارة عن ( بلم ) بانيو صغير من الصفيح ملئه بتشكيلة من ( بطالة البارد ) قناني المياه الغازيّة، ببسي كولا، كوكا كولا، فانتا، سبراي، سفن آب ....الخ، وكلمّا ذاب الثلج يضع عباس ثلجاً إضافيا لتبريد قنانيه من المشروبات الغازيّة التي يبيعها على المارّة وعلى أصحاب الدكاكين والمحلاّت في سوقنا التجاري.

و كثيراً ما طرده أصحاب المحلاّت التي ( بسّط ) افترش عباس الأرض ببضاعته إمام محلاتهم، وأخيراً حلّ مقابل محلنا فطيّبنا خاطره وحميناه من حواسم ذلك الزمان حيث لم يكن مصطلح الحواسم قد ابتدع آنذاك، بل كان مصطلح ( أكّالة العشت ) أي الذين يأكلون ويشربون بالقوّة القاهرة وبدون أن يدفعوا أي مبلغ لقاء ما استهلكوه وهي عملية ابتزاز أشبه بـ ( الخاوة ) الإتاوة التي يأخذها الأقوياء الذين لا ذمّة لهم من الضعفاء العاجزين عن الدفاع عن أنفسهم.

كان عباس الذي لا نعرف لقبه ولا اسم أبيه، كان ظريفاً طريفاً، صاحب نكتة، وقد وضع حبلها على غاربها ( دهري، وسريحي ) كما تسميّه اللهجة العاميّة البغدادية . أي لا يأبه لضغوط الحياة ومشاكل الدنيا إن هي أشرقت وهي أغربت.

وفي يوم من الأيّام وعلى عادته من ( الفطارة ) البلادة و( الدهوريّه ) وضربه لهموم الحياة عرض الحائط، طلب من ( صانعي ) عاملي أن يؤسس له شركة تليق بحلمه الذي يصبوا اليه، فاقترحت أنا بدوري على صانعي هذا، وكان يجيد الخط العربي ان يخطّ له ( قطعة ) لوحة كارتونيّة بأسم شركته وأسميتها ( شركة تراب حنطة ) نسبة إلى ما يسقط من فضلات سنابل الحنطة اليابسة من قشور وسيقان على شكل أتربة تستعملها ربّات البيوت قديماً في العراق لتنظيف الأواني والصحون وقدور المطبخ حيث فيه ( تراب الحنطة ) قابلية على امتصاص الدهون والأوساخ، وذلك قبل ظهور مسحوق الصابون ( التايد والاومو ...الخ ) وحتى بعد ظهوره بقليل في بداية الخمسينات.

فرح عباس أبو الببسي الذي اكتسب شهرة وتسمية جديدة هي ( عباس تراب حنطة )، كما فرح بالكارتونة التي خطها ( صانعي ) عاملي وبما كتبه عليها وعلقها فوق رأسه على الحائط الذي وقف جنبه لبيع مشروباته الغازيّة.

مرّ مصوّر جوّال نادى عليه عباس فطلب منه التقاط صورة له إمام بسطته، فظهرت الصورة واللافتة ( شركة تراب حنطة ) خلفه وهو ( عبوسي ) يقف إمامها بكل زهو وافتخار.

وقعت مجلة اسمها ( تجارة الشرق الأوسط ) وهي مجلّة تجارية بريطانية تصدر باللغة العربية، ولا أتذكر إن كانت تردني أسبوعيا وشهري.

أحبّ عباس أن تكون له مراسلاته مع الشركات التجارية مثلنا تماماً، وفعلاً حقّقت له ما أراد فسجّلت له اشتراكاً على عنوان مخزني بدل محلّي الذي أنا عندي اشتراك عليه في المجلّة، وما هي الاّ اسبوع وتصله نسخة منها لتتوالى النسخ الاخرى تباعاً بأسم شركة تراب حنطة.

و تمضي أيّام العطلة الصيفية متسارعة، فلم يبق من شهورها الأربعة الاّ شهر واحد واقل بقليل، ورغم إن عباس هذا قد تعوّدنا عليه وتعوّد علينا وأحببناه وأحبّنا، ولكن المثل المصري الذي تعلّمه عبوسي من الافلام يقول : ( الحلو ما يكملش )، هذا المثل احكم قبضته من عباس إذ رجع إليه اثنان من الذين كانوا يطردونه من الجلوس و( التبسيط ) بسط بضاعته إمام محلاتهم، رجعوا إليه يتملّقوا له لغرض كسبه إليهم.

.لأن عباس امّه من مذهب وأبوه من مذهب آخر

ولا أتذكر ألان هل كان والده شيعياً أم سنياً ؟ وكذلك والدته لا أتذكرها أكانت من الشيعة أم من السنّة ؟ .

كلّ ما نعرفه انهما كانا من مذهبين مختلفين ولكنهما مسلمين متوافقين وقد نزحا من مدينة الكوت المتعايشة مذهبياً وقومياً ليسكنا في مدينة الحرية المتعايشة مذهبياً أيضا, وكانا ( أبواه ) يحب بعضهما بعضاً ولم يشعرا بأية فوارق غير انّ الموت فرّق بينهم.

و لمّا كان يسأل عباس عن مذهبه من قبل اللئيمين الاثنين من أبناء السوق المؤلّف من مئات التجار وأصحاب المحلات والمخازن التجارية كان يجيبهم عباس بأنّه ( شيني ) أي إن مذهبه مركّب من الشيعي والسنّي في آن واحد.

و بالطبع كان هذين الشخصين اللئيمين أحدهما محسوباً على متعصّبي الشيعة والثاني محسوباً على متعصّبي السنّة وكانا مكروهين من أبناء السوق الذين يعدّون بالمئات بسبب تعصب كلّ منهما إلى مذهبه بعكس أبناء السوق الذين كانوا أكثر من متعايشين، بل يوجد فينا المسيحيين والصابئة، ولم نفرّق بيننا في يوم من الأيام كمسلمين وغير مسلمين.

المشكلة الكبرى إن الاثنين المتصارعين على كسب عباس سواءً كان الشيعي منهم أم السني كانا من اصول غير عراقية ولم يمض على اقامتهما في العراق الا عشرين سنة واكثر بقليل، بعد أن قدموا الى العراق خاليي الوفاض واشتغلوا بداية بالحمالة ( حمالين ) ثم تطوّروا إلى الدلالة، ثم امتلكوا محلات وأصبحوا تجّاراً بفترة وجيزة بفضل طيبة ومساعدة أبناء السوق لهم.

وتمضي إجازة العطلة الصيفية للمدارس ويودّعنا عباس الشيني ولكن إلى غير رجعة، وانقطعت أخباره، حتى سألنا من يعرفه في منطقة سكناه ( مدينة الحريّة ) فأخبرونا أنه رحل راجعاً مع امّه إلى مدينته الكوت.

و تمضي السنون، وأكون أنا في زيارة لبريطانيا لاشاهد شخصاً على مشارف الأربعين من عمره وقد قلب شعر رأسه إلى الخلف صانعاً منه جديلة، نسمّيها بالعاميّة العراقية ( ذيل الحصان ) وقد وضع قرطاً في إحدى إذنيه، يلبس سروالاً وسترة من الجلد ماداً يده وهو راكضاً ورائي مستعطياً طالباً للإحسان، وكان في حالة أشبه بمن تعاطي مخدراً ومسكراً، فقد تدلّى من فمه ( الرهوالة

) الزبد وكلامه بطيء كأنّه مخدّر، فأمعنت النظر فيه لإحساسي بأنّي أعرفه منذ زمان بعيد، واشبّهه بشخص كنت قد عرفته قديماً .

وإذا به عباس و( عبوسي ) ألشيني، صاحب شركة تراب حنطة.

سألته ماذا دهاك يا عباس ؟

وبعد أن عرفني أجهش بالبكاء لاعناً اليوم الذي تعرّف فيه على سوقنا في باب ألآغا وعلى ذلكما الملعونين الأجنبيين ألذين استعرقا واندسّا في سوقنا التجاري والمتعصّبين كلّ لمذهبه المغاير للآخر.

لقد ضاع الولد ( عباس ) ما بين الدخيلين على السوق وعلى العراق، بل هو ( عباس ) ضحية كل الدخلاء على الدين سواءً أكانوا مدعي التشيع ومدّعي التسنّن منهم، فالدين لله، والقبلة واحدة وكتابنا واحد والصلاة والصيام واحدة والحج والزكاة و.... و.... الخ كلّها متشابهة في الاصول رغم الفوارق الطفيفة في الفروع الناتجة من الاجتهادات التي تنبع في منطقة الفراغ التي تركها الشارع المقدّس خالية من النص الشريف لأجل أعمال العقل لأرادة إلهية ترمي إلى تحريك الفكر حتى لا يكون المجتمع راكداً بعيداً عن التطوّر الفكري والحضاري ولهذا ورد في الحديث الشريف  (اختلاف امتي رحمة)

نرجع لقصة لقائي بعباس مرّة اخرى في لندن بعد اكثر من عشرين سنة وهو على هذه الحالة التي يرثى لها

و لمّا لم يكن لديّ متّسع من الوقت للمغادرة ( وفقاً لبطاقة الرجوع ) لم يكن إمامي الاّ أن ابيّن له على عجل إن هذين المدّعين ألأثنين لم يكونا عراقيين، بقدر ما فسحت لهم طيبة العراقيين وتسامحهم هي التي فسحت لهم المجال في العيش بيننا وان هذين المستعرقين لم يتجاوزا الاّ اثنين بوسط سوق تجاري كبير يضم مائآت من المحلاّت والمخازن التجارية أصحابها من العراقيين الأقحاح الذين جلّهم ينتسبون إلى قبائل عربية عراقية عريقة وذكرت له ( لعباس ) أشهرها مثل قبيلة شمّر وقبيلة عنزة والجبور والجنابات وخزاعة وزبيد وتميم وربيعة .....الخ وكلّهم يتكونون من السنّة والشيعة على حدّ سواء، وان لم يكونوا أبناء عمومة فهم أبناء خؤولة بينهما تناسب وأصهار، ولم يشهد تأريخ العراق السياسي والاجتماعي أيّة تفرقة مذهبية على طول هذا التأريخ ما عدى بعض المحطات القلقة ببعض المشاحنات المذهبية بسبب تدخلات العناصر الأجنبية من غير العراقيين ( وهنا أؤكّد جازماً إن كانت قد حدثت بعض التشنجات المذهبية فهي حتماً صناعة أجنبية من غير العراقيين.

و مثل ما هو موجود في القبائل العراقية العربية من انساب عمومة وخؤولة كذلك الحال في القبائل الكردية والتركمانية، حتى نجد الكثير من اخوتنا الأكراد والتركمان من ينتسبون وبكثرة إلى الخزاعل وربيعة والبيات إضافة للسادة البرزنجية والسادة الكسنزانية الذي يرجع نسبهم إلى الحسين بن علي ( ع ) مّما يدلّ على أن العراقيين كلّهم أشبه بأبناء بقبيلة واحدة .

 

الخلاصة :

نظراً لعدم بقاء متسع من الوقت لدي لمغادرة لندن أعطيت له ( لعباس ) ما أستطيع عليه من مال وودعته داعياً له بالهداية لاعناً وإياه كلّ من يفرّق صفوف المسلمين من أي مذهب كان كائناً من يكون.

 

ختاماً أسأل الله العلي القدير بحقّ عزته وجلاله أن يوحد صفوف العراقيين مسلمين وأصحاب كتاب، عرباً وأكراداً وتركمانا ....الخ، كل العراقيين بكل فئآتهم وتكويناتهم بدون أستثناء وأن يبعد عنهم عيون الحاقدين وشرور الحاسدين وأن يحقق لهم دولة القانون والعدالة الاجتماعية بعيداً عن الاحتلال والتدخلات الأجنبية، انّه سميع مجيب

و دمتم لأخيكم

 

توثيق

الصراع العثماني الصفوي ليس صراعاً عراقياً بقدر ما هو صراع بين دولتين تتنافسان زعامة المنطقة فيما بينهما ولا دخل للعراق والعراقيين فيه، كما ان كلّ المؤسسين وقادة حزب البعث, ميشيل عفلق, اكرم الحوراني، منيف الرزاز، شبلي العيسمي، زيد حيدر، علي غنام, قاسم سلام ... الخ كلهم ليسوا عراقيين، كذلك قيادات ما يسمى بالعرب الافغان ومنهم ابو مصعب الامريكاوي ... الخ كلهم ليسوا بعراقيين،,

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com