من المعلوم تماماً، أن انتشار فكرة الديمقراطية ورواجها في المنطقة، بذاك الشكل الطاغي، واتخاذه إجراءات عملية، قد حصل بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتجلى بشكله الأقوى بالغزو الأمريكي للعراق، الذي تبدلت فيه الذرائع كثيراً، وكان آخرها نشر الديمقراطية. وأما ما قبل ذلك، فقد كان مصطلح الديمقراطية عبارة عن مهدئات، ومسكنات، لتنويم، وتمويت أي حراك سياسي بالوعود المعروفة، وفضلات سياسية ترميها الأنظمة الحاكمة كلما تمادت في غيّها، وانفضح ظلمها، وبدأت تستشعر مؤشرات الغليان الشعبي، لكنها لا تلبث أن تتنكر لهذا الحلم الجماهيري بعد أن تأخذ الحقن المنومة أثرها الفعلي.
غير أن النسر الأمريكي الجريح، والذي أنزلته من عليائه، وأوقظته سباته الطويل، ومن دعمه السادي للفعل الاستبدادي، مشاهد الطائرات المدنية، التي تحولت لصواريخ بازلتية تدك الأبراج التجارية, رمز السطوة الاقتصادية الخارقة، والقوة العسكرية الساحقة لليانكي، بدأ التفكير بتغيير قليل لنمط "الاستهلاك السياسي"، الذي كان سائداً قبيل تلك المعمعة الإرهابية المثيرة. ومن هنا كانت بداية الانطلاق في تقديم هذه الوجبات الديمقراطية التي سببت المغص، والاحتقان، والتشنج السياسي العام، التي يترحم المرء من خلال ما تبدى من نتائجها، حتى الآن، على زمن الاستبداد بكل ما فيه، من تحلل، وعفونة سياسية بالغة. وقد بدأ معها دخول تلك المصطلحات الطائفية، التي كانت غائبة بشكل مطلق من قاموس الاستخدام الرسمي، والإعلامي في المنطقة, وإن كانت قد أصبحت موجودة، وبفعل ممارسات استبدادية أيضا لا تعفيها من المسؤولية، بنسب اقل في الشارع الشعبي العام، إلا أنها لم تكن تتجرأ على أن تعلن عن نفسها بهذا الشكل العلني، الفاقع، والسافر. حيث تحولت قيم واعتبارات المواطنة، والوطنية كلها باتجاه مغاير تماماً، عما كان سائداً قبل عقد، أو عقدين من الزمان وتحولت الولاءات، بدرجات جنونية، باتجاه الذاتي، مخلفة وراءها شرخاً في العامل الموضوعي. وظهرت على الساحة، وكبديل معلب جاهز وفوري، قوى، وفعاليات أصولية، موغلة في تحجرها، وبدائتها، وبداوتها السياسية، لتتسلم زمام المبادرة، ودفة القيادة، وتعلن عن نفسها كربان جديد لقارب غريق، معيدة، بذلك، عقارب الساعة قروناً ضوئية إلى الوراء (ولكنها اصلاً بدون أي ضوء فعلي).
وانتشر هذا النوع الجديد من المد الديمقراطي والغريب، حاملاً معه بوادر انقسامات سياسية، وطائفية خطيرة، أصبح تحت مظلته الحديث عن الفيدراليات، في أوطان متجذرة وحدوياً، وتاريخياً، ضرباً من الكلام، والطروحات العادية، والمقبولة التي تسمع كل يوم هنا وهناك. وأصبح الباب مفتوحاً بشكل كبير، وواسع باتجاه نمط "ديمقراطية الطوائف" الفعلي، الذي يضع الاعتبارات الوطنية في ذيل اهتماماته وأولوياته السياسية. وصارت الأوطان عبارة عن مجمعات كانتونية مترامية الأطراف، والغايات، والاهتمامات. ومن حيث المبدأ، لا يمكن للمرء أن يقف خارج هذه الخيارات الديمقراطية، واحترام الميول الخاصة لكل مكون، وجماعة على حدة، ولكن عندما لا تتم الانتخابات إلا وفق اعتبار طائفي، ومن منظور أحادي فئوي ضيق، فيصبح الأمر أكثر من مجرد ممارسة سياسية حرية، ليصبح عبودية، وتبعية مطلقة، وعدم انفكاك، وابتعاد عن الخيارات التفتيتية، واللاوطنية، ويضع العصي في عجلات أي بناء وطني سليم. والأخطر من ذلك كله، أنه يوجّه المشاعر، والعواطف باتجاه "عدو" داخلي، وهذا ما سيأتي بدوره، وفي النهاية، على ما تبقى من وحدة وسلامة، وأمن وطني. فهل هذا هو الخيار الديمقراطي الذي بشرنا به؟
ومن هنا أصبح التمثيل، والانتخاب نابعاً من اعتبارات الطائفة، والعشيرة، والعشيرة، والعائلة، أكثر مما هو قائم على أسس وطنية تضع المصلحة العامة في المقام الأول. ومن هنا، أيضاً، هل يمكن الحديث عن أن هذه الديمقراطية، وهي تأخذ هذا الشكل الفئوي الضيق، ما تزال مبكرة، وضيفاً ثقيلاُ، طالما أنها لم، ولن تصب في النهاية في المصلحة الوطنية العليا، والتي تكون الوحدة الوطنية فيها الحاضن الأول، والأوحد؟ وهل أنه لا يجوز الدعوة، في ظل هكذا مناخات، من غياب الوعي الحقيقي، بأهمية العامل الوطني، لأي نوع من الديمقراطية؟ ربما كان في هذه الأسئلة، نوعاً من القساوة، والتخوف من مفاعيل هذا الوافد الجديد على مجتمعات، رزحت دهوراً تحت نير الاستبداد البغيض، إلا أنها تبقى أسئلة مشروعة، ومطروحة، في آن.
وهل من الممكن الحديث عن ضرورة الدعوة لتعبئة وطنية عامة تفعّل، وتظهر أهمية العامل الوطني، الذي يجب أن يعلو على أي عامل آخر، ومهما كان حجم التأييد الذي يلقاه من قطاعات الجهل والأمية السياسية المستفحلة، التي لن تجلب في النهاية سوى الكارثة، وسوء المصير، قبيل الشروع في أي فعل ديمقراطي؟ ومن هنا، أيضاً، تبرز الحاجة لإبراز العامل العلماني، وأهميته في هذا الصدد، كداعم للفعل الديمقراطي، وبعيداً، تماماً، ودائماً، عما يعتريه من تشويه، وسوء فهم روجته تلك القوى التي ستتضرر، وينحسر تأثيرها، ونفوذها من أي تقدم، وانتصار لهذا الخيار الإنساني. وهل أصبحت العلمانية، شرطاً أساسياً، وموضوعياً للديمقراطية في هذه الأصقاع التي تتنفس، وتعيش على الولاءات الطائفية، والقبلية، والعشائرية، والدينية بشكل عام؟ وهل لا يمكن التطرق للديمقراطية كمفهوم سياسي متداول بكثرة وضارب جذوره في أعماق التاريخ، دون أن يتم التطرق للعلمانية اخيار رديف، ودون أن تظهر تلك المخاوف والتوجسات التي أصبحت تقلق الكثيرين، وتجعل من العملية الديمقراطية برمتها، وليمة لونية يتم فيها التحشيد، والتجييش لهذا الطرف، أو ذاك الفريق، بعيداً عن أي عامل وطني؟ هل نحن فعلاً، الآن، أمام إشكال ديمقراطي حقيقي نتلمس أثاره في هذا المحيط؟
يبدو مما تقدم، أن مصير الديمقراطية غامض، ومبهم، وغير محدد المعالم إطلاقاً، وينطوي على مشاكل، ومضاعفات، أكثر مما يحمله من حلول، وانفراجات، بدون ذاك الفهم الواعي، والعقلاني، والوطني لها. وهذا لا يتم بدون تقديم مفهوم العلمانية بشكل متواز معها. ولذا فإن الديمقراطية والعلمانية، قد أصبحا شرطين متلازمين، في أية عملية تغيير، وأن أي محاولة للفصل بينهما هو قفزة غير محسوبة في الفراغات السياسية، وإبحار، أكيد، في مجاهيلها المدلهمة.