|
النظافةُ منَ الإيمانِ السياسيِ
بقلم : مهند صلاحات كاتب وصحفي فلسطيني قبل أيام قليلة ماضية، كنت أتصفح كعادتي الدوريات والصحف سواء الثقافية أو الإخبارية، واستفزني فعلاً مشاهد متكررة لشعراء الغزل، والباحثين عن موضوع للكتابة فيه، فوجدوا بالطفلة هدى التي فقدت أهلها، ضالتهم، فشرعوا يدبجون قصائدهم، ويستعرضون ببلاغة اللغة من طِباقٍ وجناسٍ وغيره في تدبيج بكائية للطفلة المنكوبة، وكأن نكبتها أصبحت عيداً وطنياً أو قومياً، أو عيداً من الأعياد الدينية، حينها كتبت مقالة بعنوان " الدم الفلسطيني مانشيت جيد لكتابة قصيدة أو مقال" وعلقت فيها على من ينتظرون الدم ليكتبوا عنه، سواء كانوا في لندن أو باريس أو أحد الدول العربية الهانئة، والتي لم تفكر للحظة بأن تطبق مقاطعة حقيقية للمنتجات الإسرائيلية التي وصلت باب مكة والحرم، ويقال أيضاً بأنها وصلت جزر القمر. ويقال أنه حتى الذين كانوا يصطفون طوابير أمام السفارة الأمريكية في طلب فيزا لسفر لأمريكا "الحلم العربي" ضجوا للخبر وأزعجهم جداً، وكذلك الذين يكتبون مقالات يومية يمجدون فيها تطبيع دولهم وحكوماتهم علاقاتها مع إسرائيل كتبوا في رثاء أهل هدى، ووجهوا العديد من برقيات المواساة عبر الصحف لهدى الجريحة، وطلبوا منها أن لا تعتبر ذلك سياسية عامة لإسرائيل، فإسرائيل دولة ديمقراطية جداً ولها أصدقاء كُثر من العرب تحترمهم جداً، وأن ما حدث ليس سوى خطأ في إستراتيجية المعركة، وأنهم في حال زيارة أولمرت لحكومتهم سيقولون له : "عيب". والحكومات التي لديها الاستعداد لتطبيع علاقاتها حتى مع الديدان، ولا تفكر للحظة بأن تطبّع علاقاتها مع شعوبها، هي الأخرى سارعت في التأثر من الموقف دون أن تظهر تأثرها، فالمشهد أكثر مأساوية من مشهد غرق سفينة التايتانيك " حسب وجهة نظرها". البعض كذلك أراد أن يجعل المشهد أكثر مأساوية، فبدأ يخطط لإنتاج فيلم سينمائي عن حياة الطفلة، وأزعجه فعلاً أن حالة الطفلة النفسية لا تسمح بالتصوير، فكما يقول المثل العامي : "دُق الحديد وهو حامي"، فإن لم يتم إنتاج الفلم اليوم، ومشاعر الجماهير متأججة تجاه مشهد الطفلة التي بقيت لساعات تصرخ لوحدها، بينما يلتف حول المصور الصحفي الذي صورها أكثر من ثلاثة أشخاص بدت ظلالهم على الرمل إلى جانب دم والديها وهم يشاهدون هذا المشهد الدرامي، ليفسحوا المجال أمام المصور المحترف ليلتقط صوراً للطفلة دون أن يتقدم أحد منهم ليأخذ بيدها حتى ينتهي المخرج والمصور من أخذ اللقطة المناسبة، فلن يجدوا من يشتري الفلم، وستكون المشاعر تجاه الطفلة قد بردت ولن يعود من المجدي " مادياً" تسويق الفلم، فقد تكون إسرائيل ارتكبت مجزرة أكثر بشاعة من تلك، وسيكون من الأولى إنتاج أغنية أو فيلم عنها. وصلتني رسائل عديدة تندد بما كتبت، فالبعض علق قائلاً: هل تريدنا أن نكتب عن عجرم أو وهبي أو غيرها ؟ والآخرون قالوا: عن ماذا نكتب: والبعض قال : أنك تضع ملحاً في الجرح العربي. جميل إذاً، هل حقيقة يعتبر هذا الكلام كمن يضع الملح في الجرح كما وصفه البعض ؟؟ وإن يكن الملح في الجراح، أليس من حقنا أن نضع الملح في الجرح كي يفيق صاحب الجرح؟ الجميع يقول هذا الجرح العربي كاملاً وليس جرحاً عراقياً أو فلسطينيا فقط، جميل أيضاً. دعونا نضع الملح في الجرح كي تصرخ هذه الأمة؟، لكي نسمع صوتاً فقدناه لها من أكثر من سبعة وخمسين عاماً خلالها شهدنا مئات النكبات. كنا قديما نغني مع فيروز : كانت لنا من زمان، بيارة جميلة، وضيعة ظليلة، ينام في أفيائها نيسان، ضيعتنا كان أسمها بيسان اليوم نضيف للقائمة كان أسمها الجولان كان أٍسمها سيناء كان أسمها العراق وربما غدا كان اسمها عمّان أو كان اسمها صنعاء لنداويها بالتي كانت هي الداء. ولتسقط كل المنابر التي تقف اليوم لتعلمنا فضل قص الأظافر يوم الجمعة في الوقت الذي يعلم الأعداء جنده فضل قتلنا في كل الأيام. هذه صدقاً ليست نكتة، فبعد الجمعة الأولى لسقوط بغداد، أحد المساجد في العاصمة عمّان حيث كانت الناس تنتظر كالعادة خطبة عصماء حول الحملة الصليبية على العالم الإسلامي، وشعارات المؤامرة التي أُشبعت بها الجماهير العربية حول مؤامرة الغرب على العالم الإسلامي، وغيرها، خيب خطيب المسجد آمال الجماهير التي جاءت تفرغ غضبها لديه بركعتي صلاة على أرواح الشهداء، حيث خطب فيهم عن فضل قص الأظافر يوم الجمعة. فالنظافة من الإيمان.
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |