أطلت علينا بعض المواقع الأنترنتية الاستهبالية، والتي تأكل بعقل الدراويش، والبسطاء، من أمثالنا، الحلاوة، حتى من نوع الحلاوة "النفيشة أو المجّيقة"، كما يسميها أحبتنا "الريفيون" المتخلفون في الساحل السوري، حسب آخر اكتشافات أحد عتاولة، وصناديد القومجية، وراكبي تقليعات المركسة المطعمة بنكهة أصولية خالصة، لزوم المزايدة في البازارت الوطنية السائبة هذه الأيام، أطلت وهي تذرف الدموع على فرق الأعاربة المدحورة، كالعادة، في كل المنابر التي فيها تنافس حر وشريف وخلاّق. واعتبر هذا الموقع الفريد في تميّزه، وظـُرفه الأخاذ، وهو يتكلم هنا بالنيابة عن كل العربان، ولا ندري من فوّضه بذلك، أن هذه الخسارة المذلة بجملة من الأهداف هي هزيمة للعرب، هي خسارة لكل الإنجازات، والسمعة الطيبة، والعراقة التي حققوها سابقاً في مجالات الديكتاتورية، والاستبداد، والقهر، والتنكيل، ومصادرة الحريات، والتشبيح بكافة فصوله، ونهب المال العام.
ولولا قليلاً من شجاعة، ومن رباطة جأش مازلت أتمتع بها من أيام الفتوة، والشباب، والعنفوان لكنت على وشك الانهيار، المشاركة في سيرك التأسف، والبكاء، والعويل على المدحورين من كافة المنابر التي تتخذ من الإنسانية، والعدالة، والسباق الشريف عناوين عريضة لها، حيث لا مجال للوساطات، أو الاستزلام، والمقامرات من تحت الطاولات، والتلاعب بالنتائج، وتزوير الانتخابات، وكل تلك الموبقات التي ترتكب علناً، وعلى رؤوس الأشهاد في عالم الأعاربة المليء بالعجائب، والعجائب، والأهوال، والمفارقات. ولست بنفس الوقت من الشامتين، بل أحزن عليهم في كل خروج يخرجونه بنفس الديكورات والمؤثرات، وليس بسبب خروجهم من المونديال فقط، ومن كل مواقع الشرف، والنضال، والفخار، ولكن أيضاً حين أراهم يخرجون من الكباريهات، وكازينوهات القمار، وفروع المخابرات، وحتى التواليتات، وأعزكم جميعاً العزيز القهار . وهذا الحزن نابع من أن النقود التي سفحوها وهدروها هنا وهناك، كان من الأولى أن تصرف على البرامج الاجتماعية والتنمية والأطفال الفقراء التي سرقت عنوة منهم ومن آبائهم المضطهدين في وضح النهار. وكانوا سابقاً قد خرجوا، وبنفس القدر من الكرنفالية والاحتفال، من كافة المنافسات الدولية إن في السياسة، أو الاقتصاد، أو ميادين الوغى والقتال.
فالرياضة في المحصلة، جزء من جهد ونشاط اجتماعي، واقتصادي، وسياسي عام في أي بلد من بلدان العالم. ويرتبط إلى حد كبير بما تعيشه الشعوب، وما تحققه من قفزات في كافة المجالات، وتعكس، بشكل ما, الحالة العامة التي يعيشها هذا البلد أو ذاك. وقرر الموقع الاستهبالي سلفاً، و"بلا قافة يا شباب"، وهكذا، ودون استشارات، أن مساءات العرب، ويا حرام، كانت كئيبة، وحزينة بسبب "غزوة" المونديال التي انهزم بها العربان شر هزيمة أمام الأغيار. فهذه الرياضة النبيلة ليست فزعة عرب كرمى لشوارب هذا الشيخ أو زعيم القبيلة ذاك، إنّها علم، وتخطيط، وقبل كل ذلك، عملية علمية مدروسة لبناء الإنسان وتنشئته من الصغر، وتقديساً لا يقبل الجدال لكرامة الوطن التي هي جزء من كرامة الذات. والسؤال الذي يبرز على هذا الهامش الاحتيالي، والاستهبالي، الخنفشاري، متى كانت المساءات اليعربية غير كئيبة، وحزينة ومؤرقة؟ ومتى نام معظم البهاليل، ومهزومو الأعراب لياليهم المظلمة البائسة بهدوء، وأمان، واطمئنان، بعيداً عن هواجس الفقر، ومطارق المجاعات، ونكد الاستبداد، وتكرار زيارات زوار الفجر الذين يتمرجلون، ويثيرون الهلع، والرعب في نفوس الشيّاب، والنساء، والأطفال.
ليست الرياضة في أي بلد من بلدان العالم منفصلة البتة عن مجمل العلاقات، والمبادئ العامة، والأخلاق التي تسود في هذا البلد أو ذاك. وحين يزدهر التعليم، والقضاء، والاقتصاد، وتـُرعى المواهب، وتـُكرّم الكفاءات، ويُميّز المبدعون، والأذكياء فسيكون التفوق الرياضي في هذه الحال تحصيل حاصل. ولسنا ضد أن يفوز العربان، والعياذ بالله، في مباريات كأس العالم على الإطلاق، بل نتطلع إلى اليوم الذي تستقيم فيه الأحوال، وتحصد شعوبنا المنكوبة، كل الميداليات في كافة السباقات. إلا أن هذا الأمر يتطلب الكثير من الجهد، والتعب، والإعداد، وقبل ذلك كله، بناء منظومة أخلاقية، وقيمية، وإنسانية تعطي الإنسان قيمته الحقيقية، وتجعل الذات البشرية تشعر بالنصر والعز والفخار، قبل أن تختبر هذه النفس والذات مع الآخرين، وقبل أن تكون الهزيمة جزءاً متأصلاً في هذه الذات. فالنفوس المهزومة من الداخل، والمطاردة بأشباح الفقر، والحرمان، والإذلال لا يمكنها أن تقدم ما يجعلها تتفوق في الميدان. هزيمة العرب في المونديال هي هزيمة للذات التي هزمت سلفاً ومسبقاً، في بلدانها أمام توغل وحش الاستبداد، وأمام الشعور بمركبات النقص، والوسواس القهري الذي يكابده الإنسان وهو يرى خرق القوانين، واحتقار الإنسان، والغلاء، والثراء الفاحش، وانقلاب القيم والمفاهيم رأساً، وعلى الأعقاب. أنها ليست مجرد "دستة" أهداف "تدخل" بسهولة في هذا المرمى أو ذاك، بل ملايين الأهداف المسجلة و"الفولات" المرتكبة التي لم يتلقى "أصحابها" عليها مجرد "لطمة" جزاء. فهل يستطيع أي كومبيوتر في العالم أن يحصي عدد الأهداف و"القفشات"، والمخالفات السياسية، والاقتصادية، والضحك على الذقون والعقول، والتي سجلت في "المرامي" المستباحة لهذا الإنسان "الداشر"، والتي لا تؤهله للعب مع أي فريق "حارات" من الدول التي كرمت وعظمت من شأن الإنسان.
ليس في الموضوع أية مفاجأة البتة، وإن المفاجأة الكبرى يا سادة يا كرام، كانت ستحصل لو فازت أي من هذه الدول على أي فريق من مدن النور والأحلام، وتعظيم شأن الإنسان، وحققت أي إنجاز يذكر وفي أي مجال. وفي هذه الحالة سيكون هناك خلل بنيوي أساسي في طبيعة الحياة، أو الاحتمال الآخر وهو التفسير الأكثر احتمالاً، أن تكون قد تمت رشوة الحكم، أو حصول أحد "الزعبرات", و"النطوتات"، و"الحركات" الأخريات كما يحصل في معظم "مونديالاتنا" التي تمارس اللعب بالخفاء، وبالرفس، والأقدام، ومن وراء الظهر والقفا. والإنسان الذي هزم أمام العرفاء، والجنرالات، والبساطير العسكرية، وأمام الحكومات السارقة، والقوانين الجائرة، والضرائب الماحقة، وأمام البطانة الفاسدة، والمحسوبيات التافهة، والأزلام، والمحظيين، والمحظيات، لن يمتلك القدرة لمنافسة أي شخص على الإطلاق. فالهزيمة الأولى، والأخيرة هي هزيمة الذات.
لقد تعلمنا في مدارسنا ونحن تلامذة صغار، كثيراً من الحكم البسيطة التي لا تحتاج لكل تلك التنظيرات، والفذلكات، والعربدات التي يكيلها لنا جهابذة الإبهام. ومن هذه الحكم البسيطة، جملة بسيطة تقول: "من جد وجد". هذا على مستوى الأأفراد الذي يمكن أن ينسحب على الأمم، والشعوب التي إن جدت هي أيضاً، ستنجح ولا مجال. لنقارن بين الكوريتين اللتين اتخذتا أسلوبَيّ حكم مختلفين، فواحدة أطلقت العنان للاستبداد، والرياء والنفاق وعبادة الأصنام، وكل تلك الخزعبلات السياسية فاختفت تماماً عن خارطة التنافس مع الشعوب الأخرى، اللهم سوى في استنباطها لوسائل التدمير، والقتل، والخراب. وواحدة "جدّت" وأطلقت العنان للعقل، وحررت الإنسان من كافة القيود التي تكبل العطاء فانطلقت تنافس، وبشرف، في كافة المجالات، والمونديال، بالطبع، ليس منها استثناء.
لكن، والحق يقال فلقد أبدعت، وبرعت حكومات الاستبداد في مجال التنكيل، والطغيان، والتهريب، وسرقة الأموال، وترويع الأبرياء، وفتح المعتقلات، وتطبيق والقوانين القراقوشية على عباد الله، ولا ننسى مكرمة التعذيب، ورفع الفلقات. فلا يزعلن، ولا يشمتن أحد بآن، وبعد الآن، فوالله لن نفوز لا في لعبة "الطميمة"، ولا حتى في مباريات شدّ الحبال، أو لعبة "الباصرة" ( وعذراً من الشحرورة الصبوحة)، وعلى فريق من الأقزام، ما لم يكرّم، ويعزز، ويُعطى حقوقه هذا الإنسان المهزوم سلفاً، قبل أن يدخل أي ميدان، والمطارد على الدوام من الدرك، والجندرما، والفواتير، والفقر، ودوريات المخابرات.