|
مواويل الأمة العراقية عبد الجبارالبياتي الى صديقي العراقي مثال جمال حسين الآلوسي جسدٌ من ترابٍ بللهّ نثيثُ ماء الوردْ ، يعبق برائحةِ الهيل ِوالسِعدْ، يشرب إكسيره من دم الفراتين ، ممددٌ هنا مذ خلق الله كونه ... إسمه العراق . جسدٌ إفترشته الحواضر شمالا وجنوبا ، شرقا وغربا ، آشور وأكد وبابل وسومر وآنة , موغلة ٌ في الزمن ِالسحيق ِولم تزلْ ، توارثتْ وتعانقتْ وتشابكتْ ، ومن ثم أنفرطت مثل عقد ماس على تفاصيل ِهذا الجَسَدْ ، مثل حبات بَرَدْ رُشتْ فوق ثناياه، مثل إكليل غار تناثرت أعواده المزّهرة فوق بساطه المخضّب بالحناء . **** عراقيّ غنىّ هنا ، وعراقيون شنـّفت أسماعهم ( من تهب أنسام عذبة من الجبال ، على أطراف الهور تتفتح قلوبْ ، لوعزف عالناي راعي بالشمال، عالربابة يجاوبه راعي الجنوب). مَلمَحٌ هنا ومَلمَحٌ هناك لا يخطئها راءٍ ، مزدانات بألوان قوس قزح ، يخطها الكحل اللزج المُسال مع صبيب عرق الجفون على وجنتين حنطاويتين ترسمان الدرب الى السماء ، فعندما تجد نفسك بين هامات الجبال المتدثرّة بالثلج شتاءا وبغابات الجوز والبلوط صيفا يجولُ بَصَرُكَ بين تلك الوجوه ذات العمائم المزركشة ، وجوهَ عراقيون كورد لا يكسرعنفوانها وحّدتها الا إختلاطاتٌ رؤومة تمتد من خللها أيادٍ حنوّة تدعوك لتتذوق اللبن المعطر بالدخان على صوت نايٍّ تصدحُ نغماته على إيقاع خرير الماء المّساقط من الينابيع العالية لتمتزج بتغريد وزقزقةِ وشدو ِِوصفير ِوهديل ِكل طيور الله ... **** وإذ تقودك النياسم من واد ٍ مفروش ٍبالأزاهير البرية لوادٍ تتشابك فيه أشجارالصفصاف والقوَقْ وعبرتَ الزابَ الكبير صَوبَ الشمال الغربي ، يمتدُ بَصَرُكَ مع سهول وتلال خضراء مرّصعةٍ بالبرقوق ِالاحمر ِفتلوحُ لك من بعيد كنائس ٌوأديرة ٌإحتفظت بعبق تاريخها وكأنها تقول ان يسوع المُخلِص سيدي مرّ من هنا ، غناء ٌودبكات يصحبها رنين البزُقْ ،أزياء زاهية الألوان نزقة كلها تجتمع هنا , رجالٌ ونساء يوزعون الحلوى والنبيذ المعتق من الصباح حتى المساء ، رجالٌ ونساء كلدوآشوريين سريان مشتبكي الأيادي يرقصون من فرحةِ إنتماءهم لأرضهم وعشقهم للحب والخير والسلام (فالمجد لله في العلا يقول سيدنا المسيح وعلى الارض السلام , والرجاء الصالح في قلوب البشر) ، آشور وسنحاريب كانا ومازالا هنا .. **** وفوق مكان ليس ببعيد جنوب غرب هؤلاء يلتأمُ عراقيون أزيديون ترسّختْ جذور ثقافاتهم وتراثهم رسوخ جبل سنجار وشموخه ، يتدفأون بدثار ٍمن التسامح والحياء يمدون أياديهم لكل قادم ، فالبشاشة سمتهم فأنت مَبْشر خير ومودة لهم ، مُرْ بهم سيدي وتغدى معهم طبق (الرشدة). **** وأذ تهبط جنوبا وشرقا مرة أخرى عليك أن تختار أحد الربيعين لتساكن أهل نينوى وتتذوّق عسلا وفستقا ، وستحدثك حجارة البيوت عن طقوس موسمية وتقاليد ومفردات حياة مفرطة في الدلال والحُسْن ِليس لها مرادف في اي مكان آخر من الدنيا ، ومن هناك سيدي تنبسط أمامك سهوب بطحاء متموّجة، أذا وضعت آذانك على أي مكان من أرضها فإنك تتسّمع لابد دبيبَ دبكات (الجوبي) وصوت الطبل والمزمار، على إيقاع النايل بكَ يحتفون ، حلقات من رجال معقوفي الإنوف من أنفٍ وتأصّل ٍوإباءْ فموقد نارهم لا يطفأهُ هزيع شتاء ولا قيظ صيف، ودخانه في كل مكان من بادية الجزيرة حتى أعالي الفرات وحوله ، وعلى إمتداد الليل تسمع صرير نواعيره الدائرة في حضن الفرات مختلطا بصوت نباح الكلاب الدائرة حول قطعان المواشي الغافية ، من غَسَق ٍالى غلس ٍالى غَبَشْ، فيما تظل نسائم الليل محملة ٌ برائحة القهوة ، حتى الغبار هناك سيدي له رائحة قهوة .. **** ويتوسّط شرق هذا المكان أرضٌ نارها أزلية ٌ، وأزليةِ مكونها الإنساني السعيد أستعصى على كل أدعية التفريق والتشكيك، أنت في كركوك ، وإذا ما أختلفتَ الى مجلس ٍوحيّيت جالسيه تأتيك تحايا الترحيب بأربع لغات ، كردية تركمانية عربية سريانية ، وبلهجات ٍمتعددة ٍ، فكل إثنية منهم تركت بصماتها على زقاق أو حي أو حتى جدار، والأرض هناك سيدي مليئة بأخاديد مُترعة حفرتها مواسم الأمطار حتى لكأنها تجاعيد وملامح شيخ ٍإبتليَ بحب الله .. **** وأذا إخترتَ أن تلتفتَ الى الجنوبِ مرة أخرى يغمُركَ عبقُ القداح وأزاهير الجلنار فغابات البرتقال مشتبكة من شرق (سُرّ من رأى) حتى رافد ديالى، هناك يتمسّى عراقيون في مقاهٍ تحفُ الجداول ، سمارُ ليل ٍعلى ضوء ِالقمر متدثرّين بالألفةِ والنخوةِ ، يدفئون صدورهم بأقداح الشاي حتى ساعات الصباح الأوَلْ يراقبون ريَ بساتينهم ويتبادلون حكايا عمرها عمرالعراق ، أولائي فسيفساء من العشائر، من عروق ٍوأصول ٍمنوّعةٍ ، عربٌ وكرد فيليين وتركمان على إختلاف أعراقهم تصاهروا و(تطاعَموا) كما يُطعِّمون (بيشات) البرتقال ، فبستان عائشة كان ومازال هناك يعج بالفخاتي والبلابل والعصافير.. **** جسدٌ من ترابٍ ظللهّ سَعفُ النخيل، يعبقُ برائحةِ المطر والسمك المسكوف ممدٌد هنا مذ خلق الله كونه ، قلبه بغداد ، حاضرة الدنيا وقبلة عشاق الحياة ، فأخبارآدابها وعلومها شاهدة ٌالى اليوم على أصالةِ تراثها الثر وفنها الغر، جامعة لكنوز كل ثقافات الكون ، باسطة اليد من أول غروبٍ للشمس حتى بزوغها هَفهافة ٌرَقراقة، تتلوى طربا على إيقاع الجورجينا ونغمات الميانة ومقامات الصبا والنهاوند والبيات والحجازكار، أصولٌ على إختلافها ، طباعٌ ولهجاتٌ ولكناتْ على تنوعها ، أثنيات وقوميات، أديانٌ وطوائفٌ ومذاهبٌ ، كلها عاشت هنا ، مَرّ العصور، كان الحُبْ والحُبّ دائما يتوزع هنا على البيوتات مثل رغيف خبز ٍحارْ، سطوح ٌمتشابكة ٌوشناشيل متعانقة ٌوفوق كلّ زقاق من أزقتها سحابة من أسراب الحمائم ، حمائم السلام البيضاء ، فعيون المها الحوراءَ لم تزل ترنو بين الرصافة والجسر، جالبات الهوى كل الهوى من حيث تدري ولا تدري .. **** وكلما رافقتَ نسائم (الغربي) وهبطتَ من وسطٍ الى جنوبْ، خطوة في الغرب حيث الفرات وخطوة في الشرق حيث دجلة ، تستوقفك مواويل الهوى، وأشعار الدارمي والأبوذية والزهيري ونواحات حَمَدْ ، حَمَدْ الذي ترك بصمات عشقه في كل محطة من محطات (الريل) وستسمع في كل مكان (دك كهوة) وتشم أنى ذهبت رائحة هيل ، تفطرعلى ( قيمر السّدة ) ، وتتغدى على تمن العنبر والطيورالمشوية ، وتتعشى على الطابك والسمك واللبن الخاثر، فبين كل مضيفٍ ومضيفْ هناك مضيف ، يتزاحمون على إستضافتك ، لا يتفرّدون ولا يتفاخرون الا بعشقهم المتوارث في إكرام الضَيفْ ، ملامحهم مسكونة ٌبالبشاشة والبساطة ، وعلائم المودة والنقاء والصفاء جبلوا عليها ، فجذورهم السحيقة سيدي كما البردي ممدودةٌ في غرين هذه الارض ، دفعتهم ليس إعتباطا أن يوشموا (الكوفية) التي تغطي رؤوسهم بشكل ٍمن أشكال الحروف السومرية ، أطوارٌ من الغناء أغنتْ العراق كله ، يحملها طائرٌ من المِجرّة الى الغراف وسوق الشيخ حتى نخيل السماوة الذي تلوّع من الحبيبة السمراء التي (طرّ ته) على حين غرّة ، فهؤلاء سيدي يتعلمون العشق مع الفِطام ، وحكايات الوله لديهم عدد غرسات الشلب وقصب البردي وسعفات النخيل ، فما من رجل وأمرأة بينهم إلا وإكتوى عشقا وولها ًبحبيبه . **** وبَعدُ ، هل قادكم الهوى سيدي يوما الى البصرة ، فأهلها ما زالوا يغنون من فوق مراكبهم العشارية على إمتداد شط العرب ( أحيا وأموت عالبصرة ، خلت بقلبي حسرهْ ) ثغرالعراق كل العراق فيحاء هذه ، مكللة بغابات النخيل والسدر، ومحمل ٌمساءُها برائحة نقيع خشب المراكب النهرية فهي موطأ القادمين والغادين من والى البحر، ولسان حال أهلها لا ينفك يردد (أهلا بك من تكون ومن أي مكان جئت ، وطأت أهلا وحللت سهلا ، فسعف نخيلنا إن لم يظللك فرموش أهدابنا ظلٌ لك ) ، فكل العاشقين هناك ينتظرون عند تخوم البحر ، فعيون الحبيبة البصرية لما تزل غابتا نخيل ساعة السحر... **** جسدٌ من تراب (حُرْ) له طعمُ سكرّ النباتْ ، ورائحة قصَب الهور، ولون عيون ليلى العراقية ، ممددٌ هنا مذ خلق الله كونه ، عاشت في حناياه أمة عراقية ، ولد أبنائها على أديمها معا وشبوا عن الطوق معا، يتقاسمون الحبّ والحزنَ والفرح والموت والميلاد والشقاء والهناء ، جاءوا الى دنيا الله سوية ، وهم مصرون على ألا يغادروها وألا يحشروا أمام خالقهم إلا وهم سوية . ****
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |