خاطرة عن / حسن سريع.. وقطار الموت..!!

هادي فريد التكريتي / عضو اتحاد الكتاب العراقيين في السويد

hadifarid@maktoob.com

تحصيل حاصل، إن قلت، إن ما يعاني منه الشعب العراقي، في الوقت الحاضر، من جرائم قتل وموت بالجملة، هو حصيلة لجريمة فاشية بشعة، تمثلت في نجاح تحالف حزب البعث الفاشي العراقي، والقوميين العرب، مع المخابرات الأمريكية، وشركات النفط، في 8 شباط الأسود من عام 1963، لإسقاط النظام الجمهوري، على الرغم من المقاومة الباسلة التي أبداها الشارع الوطني، وتخلي الحكم عن الجماهير، بعدم مدها بالسلاح للدفاع عن وجودها، وعن المكتسبات التي حققتها الثورة لهذه الجماهير.

سقط نظام الحكم، إلا أن الجماهير الشعبية، رغم كل ما خسرته من قيادة وكوادر مجربة، لم تهزم وبقيت روح المقاومة تسري كالنار تحت الرماد. السجون والمواقف المدنية غصت بالمقاومين الموقوفين، أعدادهم كانت تثير الرعب في أفئدة الحرس القومي الفاشي وقياداته، لذا كانت التصفيات الجسدية للموقوفين، في النوادي الرياضية ومراكز الشرطة، حمامات دم أخرى، نفذتها بوحشية، لا وصف لها، قيادة الانقلاب الفاشية، إضافة للمجزرة التي حصلت صبيحة يوم تنفيذ الإنقلاب. أما ما كان يجري في المواقف والسجون العسكرية، فحدث ولا حرج، فالفاشست اقتادوا الموقوفين، من زنازينهم، ليلا، ومن بين رفاقهم واصدقائهم، \" للمواجهة \" أو \" للتحقيق \" إلا أنهم لم يعودوا لمواقفهم مرة أخرى إلى \" سجن رقم 1 العسكري \" أو إلى \" معسكر الهندسة \"، عندما كان يلعلع صوت الرصاص فجرا\"، \" من ميادين الرمي في \" معسكر الرشيد \"، مخترقا أجساد الضحايا الشهداء. هؤلاء الشهداء كثر، يصعب عليً ذكر كل أسمائهم، فالذاكرة عطلتها سنوات المنفى والقهر , وإن إنحفرت أسماء البعض منهم في عمق الذاكرة والوجدان، أمثال العقيد خضر حسين الدوري، عضو محكمة الشعب، والملازمين المدفعيين المقاومين، من مدفعية الفرقة الثالثة في معسكر سعد / بعقوبة صلاح، ومجيد، فهم عنوان شجاعة وصمود، لكل من تلقى الرصاص بصدره وهو يهتف بحياة الشعب. ومسؤولية حفظ أسمائهم وتخليد ذكراهم، هي مسؤولية الأحزاب والقوى السياسية التي انتمى إليها هؤلاء الشهداء الأبطال، وبالذات الحزب الشيوعي العراقي، لأن اغلبهم من عناصره وأصدقائه الذين لبوا نداء المقاومة..!

صمود الموقوفين، العسكريين والمدنيين، في أماكن اعتقالهم مَثل موقفا\" متحديا\"، للإنقلابيين الفاشست، أثار في الشارع العراقي الوطني، موقفا متضامنا مع المعتقلين، وخصوصا موقف ضباط الصف والجنود الوطنيين، الذين كانوا بتماس مباشر مع المعتقلين، ومع قادة الانقلاب، بحكم كونهم كوادر لقيادة الدبابات المستخدمة للتنقل إلى / من مقرات المسؤولين، وإلى بقية المراكز الحيوية الأخرى، وهم يلاحظون المعاملة المشينة التي كان يمارسها الانقلابيون ضد المعتقلين الوطنيين، المعروفين بوطنيتهم وإخلاصهم، وانحيازهم للجندي وضابط الصف في تحسين أمور حياته العسكرية والاجتماعية. بفترة قصيرة تشكلت، وأُعيد تشكيل، تنظيمات عسكرية، ومراكز انقلابية متعددة، ومنفصلة عن بعضها، للإطاحة بقادة شباط الأسود وحكومتهم، وبمبادرة شجاعة وغير مسبوقة، أقدم عليها في 3 تموز 1963 العريف \" الوطني \" حسن سريع، كادت أن تعصف بالنظام، وهو يحمل على دبابته الرؤوس العفنة، متوجها بها إلى \" سجن رقم واحد \" لإبدالهم بمن فيه من الوطنيين، لولا \" لمسات ومشاعر إنسانية \" ما كان يعرفها جبناء 8 شباط، كان يتحلى بها هذا القائد، حالت دون تنفيذ ما صمم عليه، وبالمقابل أدت إلى فشل انتفاضته، ليكون رأسه ورؤوس رفاقه ثمنا لأحاسيس نبيلة، يفتقر إليها َمنْ حاكموه ورفاقه، الذين حكموا على الجميع بالإعدام رميا بالرصاص لينفذ بالحال..

انتفاضة معسكر الرشيد، الموسومة باسم قائدها، العريف حسن سريع، كان هدفها، \"سجن رقم واحد \" العسكري لتحرير أكبر تجمع عسكري ـ مدني، قادر على قيادة السلطة الجديدة، وهذا ما كان الانقلابيون غافلون عنه، وبفشلها تنبه قادة \"شباط الأسود \" أن كيانهم مهدد بالسقوط، في كل لحظة، طالما تحتضن العاصمة في قلبها أكبر تجمع للكوادر العسكرية في\" معسكر الرشيد \" وبداخل هذا المعسكر في \" سجن رقم واحد \" تربض قيادات ورتب عسكرية تحضى باحترام وتأييد قطاعات واسعة من الجيش، لم يحسم ولاؤها للإنقلابيين، وهذا ما قرروا أن يحتاطوا ويستبعدوا خطره....

عندما وصلت دبابات الانتفاضة باب السجن ليلا، وامتزج هديرها بلعلعة الرصاص، اختلط الأمر على كل من في داخل هذا السجن، فقائد السجن، الرائد حازم الصباغ، الملقب بالأحمر، كان واحدا من أحقر الجلادين الفاشست الجبناء، انتحر في الحال، لاعتقاده أن الشيوعيين قادمون، وهو فقط من كان يعرف كيف كان يتعامل معهم، بكل خسة، وجبن ونذالة، لذلك فضل إلا يقع بأيديهم ويسومونه سوء العذاب، والمعتقلون خلف قضبان زنازينهم الحديدية، لا يسمعون سوى صوت الدبابات ولغط الجنود وأزيز الرصاص، طيلة الليل، وكل النهار بعد فشل الإنتفاضة، لم يقترب أحد ما منهم، ولم تفتح أبواب زنزانات المجموعات، دون ماء أو زاد.أدرك جميع الموقوفين داخل هذا السجن، نتيجة لهذه الإجراءات المتشددة ضدهم، أن ما كانوا قد وعدوا به، وما كان يصلهم من أخبار أثناء المواجهات العائلية، من أن ساعة الخلاص آتية، قد تلاشى وتبدد، ولم يكن هناك من يعرف حقيقة ما يجري، بعد أن اسُتبعدت كل طواقم الحراسة القديمة. الكل يحلل ويتكهن، دون خبر يقطع الشك باليقين، بعد غروب شمس الثالث من تموز، تجمهرت كتل، لم يرها المعتقلون من قبل، يقال عنها بشرية، مكفهرة الوجوه، غائرة العيون، لا ينطق لها لسان، بغير كلمات حقيرة وبائسة، أخرجوا كل مجموعات المعتقلين من زنازينهم، تحت التهديد والوعيد والضرب بالعصي على الرؤوس والأعناق، وفي صف طويل، توجهوا بهم إلى سيارات حمل عسكرية، بعد أن أوثقوا يد كل معتقل بيد رفيق له، وعصبوا العيون بقماش اسود، وكل من يسأل إلى أين ؟ تنهال عليه عصي غليظة من أيادي قوم أجلاف، لاضمير ولا شرف ولا كرامة لهم، يتساءل المعتقلون همسا\" فيما بينهم إلى أين ؟ الجواب كان واحدا\" : ربما إلى ميدان الرمي للإعدام.،.الرعب هو المسيطر على الموقف، حتى تلك الوحوش الكاسرة كانت مرعوبة وخائفة، أي بادرة أو إشارة من المعتقلين ُتفهم خطأ\" منهم، تؤدي إلى كارثة، فسلاحهم يرتجف بين أيادٍ قلقة ومضطربة، والإصبع على الزناد..! تحركت القافلة، وبعد مسير ليس طويلا، توقفت السيارات في مدخل محطة قطار البصرة، تنفس المعتقلون الصعداء، إذن ليس إلى ميدان الرمي، إنما لعربات حمل جديدة، لا تصلح لنقل الحيوانات، ُحشر في كل عربة أربعون معتقلا، على أقل تقدير، ومن داخلها فاحت رائحة غازات سامة تثير الغثيان، نتيجة لحرارة شمس تموز اللاهبة وتفاعلها مع مواد نفطية طليت بها قاع وجدران عربات القطار، في وقت سابق، دقائق معدودة وتلاشت حاسة الشم عند الجميع، كما هي حاسة النظر، حيث أغلقت على الجميع رتاجات هذه الحاويات، لينطلق بهم قطار، أطلق عليه لاحقا، \" قطار الموت \" لأن نتائجه كانت مدروسة بشكل دقيق، من قبل القيادة الفاشية، من أن الحمولة ( من المعتقلين ضحايا البعثفاشي )لا يمكنها بالمطلق، مقاومة السموم المستنشقة، المنبعثة من داخل الحاويات المحكمة الغلق، التي ستشعلها حرارة شمس تموز بعد فترة وجيزة من شروقها، لم يخطر ببال هتلر ونظامه محرقة متنقلة ك \" قطار الموت \" هذا، ولم يكن هو ونظامه فقط من استخدم محارق الغاز ضد مواطنيه، فالعراقيون عرفوا محارق غاز متطورة ومتنقلة، على عهد نظام البعثفاشي، إلا أن ضحايا هذه المحرقة عاش أغلبهم، ليشهدوا على المجرم وجريمته، وهم يروون أحداث انتفاضة، قادها عريف عراقي وطني وشهم، اسمه \" حسن سريع \" فشلت انتفاضة قادها، بسبب إنسانية ومشاعر هذاالقائد، وسيصف الأحياء لأحفادهم مشاعرهم وأحاسيسهم، ليس مدة التوقيف أو السجن، ولكن فقط مسار ليلتين عاشوها في رعب لا مثيل، له إحداها في ليلة الانتفاضة، في زنازين \" سجن رقم واحد العسكري \" والأخرى في قاع \" قطار الموت \" الملوث.

ستقرأ الأجيال القادمة بتمعن ما سجله تاريخ العراق المعاصر من مآس، لسيرة نظام فاشي، انطلق في 8 شباط 1963، ولم يتوقف حتى اليوم التاسع من نيسان 2003، لتكنسه وقيادته، نفس القوة التي جاءت به، إلى مزبلة قذرة، لا زال هو وأعوانه يعيشون هوانها بذلهم وعارهم..!

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com