(ستبقى عبير أميرة لكل العذريات برغم وحشية الاغتصاب ولن تنل منها تلك الذئاب، وروحها أشرف من كل أبواق الطغيان المأجورة التي تصمت، وتتستر على كل الجرائم والانتهاكات).
إنها جريمة فوق التصور، وحدث فوق الخيال، وفعل أبلغ من أي وصف، ودلالة، وكلام. وممارسة قذرة، فظة، مكروهة هوجاء لا تـُبرر تحت أي ظرف، واعتبار. فلا يمكن للخسة، والنذالة، والدناءة، والعار أن توصف إلاّ بما قام به هؤلاء السفلة، والمنحطون الرعاع. فأي قوم همج هم هؤلاء الذين يستبيحون الأجساد الغضة الطرية، الميّاسة في روض الأوطان الحزين المثقل بالهموم، والكآبة، والآلام، والأوجاع؟ وأي نصر يحققه الجزّار بخنق البلابل التي تغرّد عند الصباح وتملأ الأرض فرحاً، وحباً، ودِعة، وغناء؟ وكيف تأتّى لهم أن يغتالوا الطفولة البريئة، ويقطفوا زهرة برّية قبل أن تتبرعم ورداً، ويفوح أريجُها في البستان؟ أية نفوس شريرة، ساقطة سوداء تلك التي تشتهي لحوم الأطفال، ولا تتلذذ إلاّ باغتصاب غزالة في وضح النار؟
للانحراف حدود، وللمجون آفاق، وللجنون تخوم، وللشطط مسافات لا يمكن أن يتخطاها منحط معتوه، ومهما كان. إلا أن اغتصاب عبير، بعد الوفاة، وبهذه الوحشية الفقعاء، لا يدخل في باب هذا، ولا ذاك. أي قدر أحمق أوقع ذاك الملاك الصغير الجميل، في براثن تلك الآفات البربرية المجرمة الموتورة القادمة من مدن التفسخ، والتوحش، والانحطاط ؟ وأية صدف رعناء تلك التي ساقت الأقدام الهمجية نحو ذاك العش العائلي الدافئ لتزرع فيه الموت، والعذاب، وتعيث فيه حقداً، وتفسخاً، وبطراً، وتحيله خراباً، ويباباً؟ وأي خلل عقلي، وتشوه نفسي، وتربية ناقصة، وتنشئة شاذة تجعل من هؤلاء البشر وحوشاً آدمية منفلتة تفترس الفراشات الوادعة في أحضان الأمهات في عز النهار؟ وأية غريزة حيوانية قذرة تتيح لشاذ أن يفتك بجسد من الأموات؟ وكيف يُشبع جسدٌ، لا حياة فيه، ولا دماء، رغبةََ تلك الذئاب الجائعة الراقصة على الدماء؟ وأية شريعة حمقاء، وأي بشر أجلاف هم هؤلاء البرابرة المدججون بالسادية، والشبق الجنسي، والتحلل من أية أخلاق، وقاموا بهتك عذرية أيقونة فراتية كانت تداعب خيالها الصغير أحلام طفولية بريئة؟ من أية أدغال قدموا، وفي أية أحراش ترعرعوا، ومن أية أثداء شريرة رضعوا، وأي حليب مسموم هذا الذي يغذي الناس بهذا الكم الهائل من الإجرام، والانفلات؟
أية لعنة سرمدية تلك التي تطارد سكان هذه الأصقاع المجبولة على العنف، والغدر، والموت، والاقتتال؟ فمن نجا من أنظمة الطغيان، لا بد ستصطاده جماعات العنف والإجرام، وتحيله أثراً بعد عين في الشوارع، والحارات. ومن نجا من هذا، وذاك فرسل الموت القادمون من وراء البحار له بالمرصاد. ومن هاجر وترك سيرك الموت هذا فستعتصره الغربة، ويموت كمداً، ويأكل فؤاده الذل، والمهانة، وألم الفراق.
إن محاكمة هذا الجندي الموتور ليست محاكمة لشخص، أو فرد، أو دولة بل محاكمة لنهج كامل من العدوان والاستباحة والاغتصاب. ويجب أن تكون مراجعة شاملة لتربية، وقوانين، وسياسات تبرر العنف، والقتل، وتتغذى على الدماء والاغتصاب، وتشجع عليه، وتتبناه. مجتمعات، وأنظمة محلية، وعالمية أصبحت لا تصدر، وتنتج سوى العنف، وترعاه، وتتباهى به، وتعلنه سياسة، وسبيلاً للبقاء. ومهما يكن الحكم الصادر على هؤلاء الشذّاذ فإنه لن يعيد البسمة لثغر عبير الموؤدة بأيدي الجاهلية الجديدة الحمقاء. كما أنه، أيضاً، لا يوازي بشاعة هذه الجريمة الشنعاء. وهو بالتالي، لا يبرئ، أنساقاً طويلة متنوعة قابعة خلف الستار، جعلت من الإجرام، واغتصاب كل شيء، وبشكل عام، شعاراً ومنهجاً تقوم عليه دول، وهيئات، ومنظمات، وأنظمة، وجماعات.
وللاغتصاب في هذه الأرجاء هموم، وشجون، وآلام، وتاريخ مديد من الممارسات الشنعاء. فعبير اغتصبت منذ اغتصبت الحرية، والكرامة، وانتزعت العدالة من هذه الأوطان. ووئدت عبير بتلك الصورة الشنعاء مذ ساد الطغيان، وصارت الجاهلية السياسية هي الشرع الذي يُحكم به الناس. واغتصبت عبير مذ استباح الاستبداد خصوصية الناس، وحولت إنسان هذا الشرق المستبد إلى مجرد شبح بشري، وهيكل آدمي، ورقم أصم في قوائم المغتصبين والبؤساء، التي تصدّرها المنظمات الدولية وتتسلى بهذه المتعة، والنشاط العبثي في أوقات الفراغ. لقد اغتصبت عبيرحين تسلط الجلادون، والجزارون، والقتلة الموتورون على حياة الناس، وأصبح لهم الباع الطويلة، واليد العليا، والقرار الأخير في تقرير مصير الناس. شعوب بكاملها مستباحة، رهينة، ومغتصبة يتسلى بها أي كان، ولا يهم هنا هوية الجاني والأهم هو فعل الاغتصاب. اغتصاب عبير هو اغتصاب لأمم، وشعوب تطعن بكل أنواع السهام، والرماح، والنبال وعلى مر الأيام، وأدمنت بذلك أفعال الاغتصاب، وبشتى الأشكال، لكن دون أن تجد من يدفع عنها هذا البلاء، ودون أن يكون لها، أيضاً، حق الصراخ، والاعتراض.
ولا يلام الذئب في عدوانه**** إن يك الراعي عدو الغنم