حق "الحياة وبكرامة"* هو ما يرسم حدود الدول ويحدد نظمها

 علي آل شفاف

Talib70@hotmail.com

مقدمة

 التطور ـ أو التغير بوجه أعم ـ هو قانون طبيعي, سواء كان ناتجا عن التفاعل (أو الصراع) الجدلي لعناصر المادة, أو التأريخ, أو مفردات الأفكار؛ أم عن غيرها, لا يعدو كونه نتيجة لإرادة حرة مسبوقة بحياة وعلم, متوحدين في ذات واحدة مريدة. بذلك يكون هذا التغير والتطور (تغييرا) بإرادة. الأمر الذي ينطبق تماما على التغيير الاجتماعي وبالتالي السياسي. ولكون الإنسان عالم ومريد ـ بدرجة ما (أي أنه كائن مفكر), فهو ـ إذا ـ كائن مغير. وهذا ما ميزه عن الحيوان الذي يفتقد تلك الملكة, وبالتالي تنعدم إرادة التغيير لديه, فيستسلم لقانون الطبيعة ولشريعة الغاب, ويفقد حياته لصالح الأقوى. 

ينبثق التغيير الاجتماعي والسياسي ـ الذي هو موضوعنا ـ عن إرادة لإنقاذ وصيانة وحفظ حياة الإنسان وكرامته بالدرجة الأساس, لأن (محركات) التغيير الأخرى كالأرض والمياه والثروات وغيرها, لا تحصل على قيمتها إلا بوجود أناس أو مجتمعات قائمة عليها, وكذا الأمر مع النظم الاجتماعية والسياسية وهيكلية الدول وحدودها, والأبعاد المعنوية المترتبة عليها, من شعور وطني, وتفاخر بالتاريخ والتراث, وولاء سياسي أو ديني, وما إلى ذلك. كل تلك الأمور متعلقة بوجود إنسان, بدونه يفقد بعضها معناه, ويفقد البعض الآخر أثره وأهميته كعنصر محرك للصراع والتنافس, وبالتالي التغيير. فوجود الماس في صحراء قاحلة بين يدي إنسان عطشان, لا يشكل له ـ هو وماس الأرض كله ـ أهمية تذكر مقابل  قطرة ماء. من هنا تتجلى أهمية وأولية حق الحياة وبكرامة, ومن هنا أيضا كان هذا الحق هو أول حقوق الإنسان, التي سطرت في الشرائع السماوية, والقوانين الوضعية.

 

 المقال

 هذا المقال ليس ردا, وإنما هو رأي, قبال بعض الآراء التي طرحت في بعض المقالات التي تدافع عن أصنام اعتبارية, قدست على حساب حياة الإنسان وقيمته وكرامته. صنعها من صنعها ـ في ظرف معين ـ لمصلحته, التي ليست ـ بالضرورة ـ مطابقة لمصلحتنا الآن, إن لم تتعارض معها؛ وليُسَيّر بها شؤون أيامه, فيما نحن غير مجبرين على أن نسير شؤوننا وفق ما ارتآه. لأن معطيات الواقع المعاش فعلا ـ وليس الواقع السابق ولا اللاحق ـ هي التي تحدد وجوب تغيير نظام البلد أو هيكليته أو حدوده من عدمه.

إن ما أثار هذا الأمر وحتم حسمه, هو بروز معايير كانت مخفية, إلى وقت قريب, أظهرتها الأحداث الأخيرة في العراق, لتكشف لنا عن ثقافة وفكر مرعب, يهب لمن يشاء حق الحياة بكرامة, ويسلبه عمن يشاء. وليفتح باب التأمل ومراجعة الأفكار والمعايير السابقة, التي كشفت عن طيبة وسذاجة عند من يستخدم معايير معينة للتعامل مع الآخر, في حين لا يقبل ـ ذلك الآخر ـ التعامل معه وفقها. وبالتالي كنا ولا نزال نحن الخاسر الأكبر (عبر التاريخ), حيث نخسر أبناءنا وأموالنا وثرواتنا, لا لشئ إلا ليشبع الآخر نهمه للسلطة والثروة. وهذا ـ للأسف ـ هو الواقع.

 وعلى الرغم من أنني أقدر تلك الأصوات وأتفهمها, لكن الواقع يؤكد أن هذه الأصوات  ـ مع افتراض حسن النية ـ ليس لها أي صدى أو تأثير في الأوساط التي تعمل على تهديد حياة الشعب العراقي. بل أن وجهة النظر المعاكسة هي السائدة في تلك الأوساط, والواقع يقول أن هناك ضحايا بالعشرات والمئات يوميا تجسيدا لفتاوى تشجع على إبادة العرب الشيعة في العراق, وسوف لن تكون فتاوى "ابن لادن" ـ قبل أيام ـ آخرها. ولا يمكن الانتظار حتى ينتهي حفر جبل (ثقافة نفي الآخر) بأبرهم . . حينها سيقرأ من بقي منا الفاتحة على الملايين من العراقيين.

 عندما أتحدث ـ هنا ـ عن التغيير السياسي, أقصد به التغيير الذي تتطلبه صيانة حق الحياة للفرد والمجتمع وبكرامة. فلو تحققت صيانة حياة العراقيين وكرامتهم بتغيير النظام, لأغنانا ذلك عما بعده, لكن ذلك لم يكن. لذا نحن ـ الآن ـ بحاجة إلى تغيير بنية وهيكلية الدولة والمجتمع, كالانتقال من النظام المركزي إلى النظام الاتحادي, وغير ذلك. وأرجوا أن يكون هذا كافيا لتحقيق وتأمين حق الحياة لجميع العراقيين وبكرامة. فإن لم يتحقق ذلك ـ لا سمح الله ـ وإذا ما توقفت الحياة الكريمة للعراقيين على تغيير بنية وجغرافية البلد, لا بد من القيام بذلك, ولا مكان لأية (صنمية) جوفاء قرابينها دماء الملايين من الضحايا. فلا معنى لوطن دون مواطنين.

قد يقول قائل إن هذا هروب إلى الأمام, وليس حلا للمشكلة! والجواب: إن المشكلة متجذرة وتأريخية, ومن ينفي هذه الحقيقة أما جاهل أو متجاهل, ومن يحاول أن يخفيها فقد خان فكره وضميره والتاريخ. فالحل لا بد أن يكون من صنف المشكلة وبعمقها, وليس حلا تخديريا, نعود بعده بشهور وسنوات قلائل, لننزف دما أكثر مما سبق.

لذلك عند دراسة دوافع ومبررات التغيير الاجتماعي والسياسي لا بد من الابتداء بحق "الحياة وبكرامة" للفرد والمجتمع, والتسليم بحق المجتمع في التغيير, إذا ما وجد أي تهديد لحياة أفراده أو كرامتهم أو بنيته. فالحفاظ على\والدفاع عن\ وصيانة هذا الحق هو ـ لوحده ـ سبب كاف لإرادة التغيير والعمل على تحقيقها, مهما كان هذا التغيير كبيرا وعميقا ومؤلما. ولا معنى لأي حق آخر قبل تأمين هذا الحق. يأتي بعد ذلك حفظ الأرض, والمال, وغير ذلك. وهنا لا بد أن أنوه إلى أن الدفاع عن الأرض والمال وغيرهما ـ الذي قد يؤدي إلى فقدان الفرد لحياته أو المجتمع لبنيته ـ يأتي اختيارا وسموا من الفرد والمجتمع, وتنازل تطوعي عن الحق الأساسي, من أجل حق آخر. ويأتي أيضا بعد تحقق هذا الحق الأساسي. ولا يدل على تناقض في أولية حق "الحياة وبكرامة" على باقي الحقوق. أما عنصر المنافسة الناشئ عن شهوة التسلط أو التملك أو الغلبة أو غير ذلك. فإنه محرك ودافع نحو التغيير, وليس مبررا له. لذا لا يكون مقبولا ـ غالبا ـ إذا ما تعلق بحق فرد أو مجتمع آخر في الحياة, أو أي من حقوقه الأخرى. وهنا منشأ الكثير من الصراعات.

 لهذا, لا نجد من يختلف على أولية حق "الحياة وبكرامة", ووجوب صيانته؛ إلا عندما يصل جشع التسلط أو التملك أو الغلبة إلى الحد الذي يتجاوز فيه بعض الأفراد والمجتمعات, على الحق الأساسي لبعضها الآخر. فيكون ذلك مبررا كافيا للتغيير, بل يكون التغيير هنا لازما حتميا.

 والآن, ما هي موانع التغيير أو مبررات عدم التغيير, عند تحقق ضروراته؟ وهل يوجد مبرر عقلي واحد يمنع الإنسان (الفرد والمجتمع) من السعي الجاد والحثيث لتغيير الواقع الذي يهدد حقه الأساسي في "الحياة وبكرامة"؟

 إن أغلب الموانع ـ (وكلمة "أغلب" هنا لكي لا نكون "قطعيين") ـ هي عوائق وهمية رسخها تراكم ثقافي وإعلامي (وهو غير التراكم المعرفي أوتراكم الخبرات, فالأول تفعل واصطناع والثاني طبيعي). أصبحت هذه العوائق الوهمية ـ بالتقادم ـ مسلمات في ذهن الفرد, دون أن يبحث عن أسسها أو واقعيتها أو منطقيتها. أهم هذه العوائق هو المفهوم المحرف للوطنية, والقدسية الزائفة للحدود, التي ـ هي أصلا ـ توضع   وتتغير حسب معطيات الواقع الذي يعيشه مجتمع ما, في بقعة ما من الأرض. 

 من هنا,  يكون من المفاجئ والمستغرب, التباكي المخجل لدى الكثير من (المثقفين), على تقسيمات وحدود يعترفون هم أنفسهم بأن من وضعها هم أفراد أو دول بعيدة عن مجتمعنا وإنساننا. بعضها أقر واقع آني (أي أنه وجد الأمور في حينه على هذا الحال, فقننها. دون دراسة واقع التوزيع السكاني, وتداخل الانتماءات الاجتماعية المختلفة).

لذلك فمن السذاجة ـ بمكان ـ أن نستدل على قدسية حدود دولة ما, على أن هذه الحدود كانت موجودة في وثائق ذلك الزمن, أو تلك الدولة الأجنبية. الأمر الذي يدل تماما على عكس القدسية المزعومة, لأنه يؤكد أن هذه الحدود هي أجنبية الصنع وليست (وطنية). وبالتالي على المجتمع تغييرها وفق معطيات الواقع الاجتماعي الداخلي ـ إن وجدت الضرورة لذلك ـ وإلغاء عنصر المصلحة الأجنبية.   

 إن الوقوف أمام التغيير, هو وقوف بائس أمام عجلة الزمن التي لن تتوقف. وهو منع بائس لسنة التغيير التي حكمت التاريخ الإنساني, فضلا عن سيرورة الكون في صيرورته وتطوره. إن سنة التغيير هذه, هي الحياة بعينها, لأن انعدام التغيير, هو انعدام للحركة, وبالتالي انعدام للحياة.

كما أن معارضة التغيير تستبطن استصغار للذات, وهي ـ أيضا ـ تناقض معها. ففي حين ننظر إلى الذين غيروا واقعهم عبر التاريخ على أنهم أبطال, وعلامات بارزة في التاريخ الإنساني, وبالتالي نمجدهم ونمجد أفعالهم, ونفتخر بهم؛ نجد أنفسنا عائقا أمام الأفعال التي توجب التمجيد والفخر أكثر من أولئك, لأن دافع الحفاظ وصيانة حق "الحياة وبكرامة" هو أسمى الرغبة في التوسع ـ مثلا. 

فما هو الفرق بين إنساننا المعاصر ـ أو بيننا نحن على التحديد ـ وتلك الشخصيات التاريخية؟ وهل هم أناس متفوقون فوق العادة, ونحن ضعفاء وهامشيون فوق العادة؟ الفارق هو, أنهم لم يتقيدوا بصنم أجوف صنعه له وحد تخومه أي كان. بل تحركوا وغيروا عندما فرضت الضرورة نفسها. وحتى لو لم يفعلوا, فإن هذا لا يمنع التغيير عقلا, إذا كان حاجة واقعية ملحة.

 إن حدود أية دولة لا تستمد قداستها إلا من الإنسان الذي يعيش داخلها, وليس ممن كان قبله, أو سيأتي بعده. لأن لكل منهم دولته. فوجود حدود معينة لدولة ما, في عصر ما, لا يضفي عليها القداسة في عصر آخر. خصوصا إذا ما كانت سببا في فقدان ساكنيها وعمارها ومواطنيها لحياتهم وكرامتهم.

 

ــــــــــــــــــــــــــ

حق "الحياة وبكرامة" هو مركب من حقين منفصلين لكنهما متلازمان, وهو غير "الحياة الكريمة" التي هي حق واحد بصفة معينة. لأن حق الحياة سابق للتوصيف, وهو وجود مقابل عدم. لذا يجب إحرازه أولا, ومن ثم صبغه بأية صبغة نشاء.

 

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com