بمناسبة ذكرى ميلاد القائد الشيوعي يوسف سلمان يوسف " فهد "

فـهـد … الأنسـان

جاسم هداد

jasem36@yahoo.se

عاصر الرفيق الخالد يوسف سلمان يوسف ـ فهد ـ عدد من المثقفين الماركسيين العراقيين، لكنه تميز عنهم بنقل الفكر الماركسي من حديث المقاهي السياسية الى الطبقات الكادحة صاحبة المصلحة الحقيقة فيه.  ان اختلاط فهد بالجماهير كواحد منهم وتعامله معهم بصدق وتواضع بعيدا عن التكلف والترفع، جعله قائدا مبدعا ذا قدرة على تنظيم العمل الجماهيري وقيادته.

في فترة إقامة فهد في مدينة الناصرية استطاع  ان يبني علاقات متميزة مع الكادحين،  أهلته ليكون من قيادات الحزب الوطني العراقي في الناصرية ( نائب رئيس الفرع )، والذي كان  يتزعمه الشخصية الوطنية العراقية جعفر ابو التمن الذي آزر فهدا كثيرا ودافع عنه، لما لمسه فيه من إيمان عميق بقضيته الوطنية واخلاص وصدق لما يناضل من أجله. وعندما وصفت السلطات الحكومية وقتذاك في مدينة الناصرية نشاط فهد المتميز بأنه هدام ، قال ابو التمن  انه : ( بناء يحاول ان يبني مع الفلاحين والضعفاء حياة سعيدة للناس ).

 يمكن اعتبار فهد اول السياسيين العراقيين الذي نقل السياسة لأبناء الكادحين والتي كانت تقتصر على النخبة، وأول من جعل الشيوعية محببة الى نفوس المواطنين، وذلك لأقتران اقواله بأعماله, وكونه القدوة الحسنة بسلوكه وتمتعه بخصال أتاحت له القبول عند من يختلط بهم ويتحدث معهم، أستوعب الماركسية بشكل مبدع واستحق بجدارة القول عنه انه : ( اول  واحسن من طبق في العراق المنهج الماركسي اللينيني ). الى جانب ذلك درس التاريخ العربي والاسلامي، واهتم بحفظ الامثلة الشعبية والحكايات الفولكلورية والشعر الشعبي.

واهتم بكل ماهو وطني وشعبي لأدراكه ان فنون الشعب تعبر بدقة عن اعمق احاسيس الشعب الكادح، كان فهد يجيد رواية الحكاية والنكتة الشعبية ويضرب المثل الدال الموجز. واستطاع توظيف ذلك في تعامله مع الناس وفي تقريب وتوضيح افكاره التي كان يطرحها سواء في عمله التنظيمي أو التثقيفي الحزبي أو في كتاباته أو في دروسه التي كان يقدمها في السجن.

 عندما ارسله الحزب الى موسكو في نهاية عام 1934 للدراسة في جامعة كادحي الشرق الشيوعية، كان خلال دراسته تلميذا يجيد فن الاصغاء، مواظبا على الدروس والاجتماعات، يستغل وقته جيدا في القراءة والكتابة بعيدا عن الثرثرة والصخب، حتى غدت الصورة الأكثر وضوحا في ذاكرة زوجته هي مشاهدتها له اما أن يدرس او يكتب، وكان يقضي الليالي ساهرا في محاولة التعلم، وبذلك استطاع ان ينهي دراسته بتفوق حيث انهاها بسنتين بدلا من ثلاث سنين.

 خلال دراسته في موسكو تعرف على شريكة حياته، ورغم قصر حياتهما الزوجيه ولكنها كانت حياة زوجية ناجحة سعيدة، حيث تركت اثرها على زوجته والتي ظلت تعيش على احلام السعادة التي غمرها فيها اثناء حياتهما المشتركة، وظلت  تربطها بالعراق مشاعر عميقة من خلال رعايتها للشيوعيين العراقيين وكلماتها الطيبة المفعمة بالمحبة، وتلقفها لأخبار العراق.

 كان رغم انشغاله بالدراسة وبهموم وطنه وحزبه، يساعد زوجته في عمل البيت ويبتكر وسائل عديدة لجعل العمل المنزلي ميكانيكيا لا يتطلب جهدا بدنيا، ويعلمها اللغة الانكليزية، غادر موسكو وزوجته حاملا بإبنته، مضحيا بالسعادة التي عاشها مع زوجته، متلهفا للعودة الى وطنه، مسرعا لمواصلة النضال بوعي اعمق وتجربة اغزر. واودع لدى عدد من رفاقه الشيوعيين الموجودين في موسكو بعض رسائل تحمل تواريخ متفاوتة ومعنونة بأسم زوجته وطلب منهم ايداع هذه الرسائل في صندوق البريد  في تاريخها المسجل عليها، ولم ينس ابدا عيد ميلاد زوجته، فيشترى لها هدية ويرسل لها رسالتين باللغة الروسية والانكليزية من باريس اثناء تواجده هناك، مهنئا اياها بعيد ميلادها، مبديا قلقه على صحتها، متمنيا ان تكون معه، معتذرا لها عن غيابه عنها. وعند عودته مرة ثانية الى موسكو عام 1942 للمشاركة في أجتماع ممثلي الأحزاب الشيوعية وكان الغزو الهتلري اجتاح أراضي الاتحاد السوفيتي مقتربا من موسكو وصوت المدافع حطم زجاج البيت، فأخذ يصلح زجاج البيت بنفسه، مبديا تفاؤله بهزيمة النازية، ورغم علاقته الحميمة مع زوجته لكنه لم يبح لها بمركزه الحزبي ولا بمهامه الحزبية.

 عند عودته للوطن  عام 1938، وجد الحزب الشيوعي العراقي الوليد مهشما، مبتليا بالفوضى التنظيمية، يسوده عدم الانضباط الحزبي، حيث افلحت السلطات الحكومية في اعتقال قادة الحزب ومعظم كوادره، وترك قسم منهم الحزب والعمل السياسي. أهتم فهد ببناء الحزب مجددا، حزب من طراز جديد، وفق الأسس اللينينية التي تعلمها والخبرة التي اكتسبها، واستطاع ان يبني حزبا شيوعيا، لا يعرف المهادنة ولا الموسمية، أصبح خلال فترة زمنية قصيرة  حزبا جماهيريا  يتصدر نضالات شعبنا، رغم شيوع الأمية والجهل والتخلف وقتذاك،  ورغم ان فترة قيادة فهد للحزب قصيرة نسبيا، لم تتجاوز عشر سنوات.

الا أنه رسخ أسسا وتقاليدا وقيما ثورية متينة  مكنت الحزب من الصمود بوجه اعتى الدكتاتوريات التي تعاقبت على حكم العراق، إذ شهد تاريخ الحزب ظروف قمع متواصلة منذ العهد الملكي المقبور مرورا بشباط الاسود الى دكتاتورية صدام.

 يذكر الرفاق الذين عاصروا فهد تعامله معهم وجهوده  من اجل تعليمهم ما تعلمه وسلوكه القدوة حيث كان المبادر دائما لتنفيذ ما يطلب من الرفاق، ويقرن دعوته التربوية بسلوكه اليومي مع الرفاق والمواطنين، يراعي الظروف الاجتماعية، حيث كان يؤكد على ان يتولى الشيوعي تنظيم عائلته و اقاربه في العمل الحزبي، ولا يجوز ان يتولى مسؤولية التنظيم الحزبي رجل غريب، خشية القاء القبض على اجتماع نسوي فيه رجل حاضر وحتى لا تعطى فرصة للتشهير بالشيوعية والشيوعيين، شهد له كثيرون بأنه  شخصيا متمتعا بإخلاق لم تمنح أعدائه وخونة الحزب الفرصة للنيل منه.

 كان يأخذ بيد الرفاق غير مبديا لهم انه اكثر منهم معرفة فتراه يحدث (عبد تمر) من انه سوف يتعلم عندما رشحه لعضوية اللجنة المركزية واعتذر الأخير كونه لا يمتلك المؤهلات التي تؤهله لهذا المركز. وكان يحث الرفاق الآخرين ويشجعهم على الكتابة لصحافة الحزب،

مشيرا لهم انهم بالممارسة سوف تتحسن كتاباتهم وانه بدأ بدايات بسيطة، ولم تكن كتاباته في بداياتها بالمستوى الجيد. لم يغب عن بال فهد الاهتمام بظروف رفاقه العائلية، فتراه وهو داخل اسوار سجن الكوت، يوصي التنظيم الحزبي بتأمين سكن لزوجة احد الرفاق، لأن الرفيق غير مرتاح لظروف سكن زوجته.

 كان قريبا من الرفاق معايشا ظروفهم، ويأبى تركهم أيام المحن وساعات الشدة، رافضا النجاة بنفسه دونهم، عند اشتداد حملة الاعتقالات عام 1946، اقترح احد اعضاء اللجنة المركزية عليه مغادرة العراق والسفر الى ايران والبقاء في عبادان او المحمرة، خشية اعتقاله، فرفض ذلك مؤكدا انه ليس من الصحيح ترك الحزب بمثل هذه الظروف، كذلك رفض فهد ما طلبه منه رفاقه في سجن الكوت، بعدم السفر الى بغداد عندما تم استدعائه ورفيقيه صارم وحازم لأعادة محاكمتهم، طالبين منه الأعتصام في السجن مبدين استعدادهم للتضحية من اجله، فقال لهم : ( لا،  لا افعل هذا، فأنني ارى من العيب التحصن في سجن الحكومة لئلا يقال ان فهد خاف من الموت).

 ولم يقتصر اهتمامه على رفاقه فقط بل كان مهتما بالفنانين والأدباء بشكل عام، حيث يذكر الفنان يحيى فائق الاثر الكبير الذي تركه فهد بعد لقائه معه وشرحه له بإسلوب بسيط وواضح دور المسرح في تعميق الوعي السياسي والطبقي لدى الجماهير ومساهمة المسرح في التغيير للمجتمع وإزالة الظلم الأجتماعي والفوارق الطبقية.

 وعندما اشتكى الرسام رشاد حاتم في يوم من الأيام من ان جدران السجن حرمته من الرسم فقال له الرفيق فهد : ( ادفع جدران السجن وتصور الناس والطبيعة). 

 و في رسالة له من السجن يوصي بالجواهري الكبير : ( وثقوا صلتكم بالجواهري، وساعدوه بالمقالات وترجمة المواضيع المفيدة)، ويقدر جيدا إرتباط مزاج  الشعراء بالوضع الثوري فعندما علق بعض الرفاق عن الجواهري انه لم يكتب شعرا جديدا للحركة الوطنية قال  :  (الجواهري اصنع له حدثا فتراه بلبلا مغردا ).

  في السجن  اهتم فهد بالمناضلين وكرس جهوده للعناية بمعيشتهم وتثقيفهم سياسيا ومدرسيا، وبأشرافه تحولت قاعات السجن الى صفوف مدرسة ثورية، كان حريصا على ان لا يترك فراغا في أوقات السجناء، كان بنفسه يتابع مأكل وملبس ومنام رفاقه، وشهد كثيرون بأنه يقضي الليل ساهرا بين الكتابة والقراءة وتفقد رفاقه، فيغطي من سقط عنه غطاءه، ويوقظ طباخي شوربة الصباح والخبازين ثم يخلد الى النوم لبضع ساعات مع ساعات الفجر الأولى، ويبدأ البرنامج النهاري بمحاضرة في الأقتصاد السياسي ثم بعدها الفلسفة ولم يقتصر التثقيف على السياسة فقط بل تعداه الى محو الأمية ودروس في اللغة العربية والأنكليزية والأدب العربي، إضافة الى الرياضة، كان فهد يساهم في ويتابع كل هذا، حتى مزاج السجناء لم يغب عن باله ففي كل اسبوع تقام حفلة للغناء والموسيقى والسمر, ورسخ فهد تقليد الأحتفال بالمناسبات الوطنية والأممية, وكرس جهوده على تربية الشيوعيين بالروح الجماعية، وحب التنظيم والانضباط، وحب التضحية ونكران الذات، وانتقل هذا التنظيم الى باقي السجون.

 كان فهد كقائد، صارما مع من يخرق الضبط الحزبي وحادا مع الثرثارين، وإذ يسمح في الهيئات الحزبية ويتحمل النقاش مع الرأي المخالف، فهو ومتبعا المركزية الديمقراطيةعلى الطريقة الستالينية، لا يسمح بنشر الرأي المخالف في صحافة الحزب ، كان قاسيا في نعوته للذين يدعون الى حل الحزب الشيوعي، ولهذا السبب يلومه بعض المثقفين على انه فرط بهم، ويأخذون عليه مبدأيته المفرطه، وجديته حتى في حياته الشخصية وعلاقاته مع اصدقائه.

 يصفه معاصروه  : مربوع القامة، متين البنية، مقرح الجفنين قليلا، بسيط المظهر، انيقا, متواضعا بغير تكلف، خفيض الصوت يتكلم بأناة، قليل الكلام، ولكن عندما يتعلق الأمر بشرح موضوعة نظرية او توضيح شأن سياسي  فأنه لا يبخل بالكلام، ويركز بدقة على الموضوع الذي يتكلم عنه، ويبلور جملته بصدق وبساطة، تلميذا ومعلما في ذات الوقت.

 شخصية شعبية، وطنية، شجاعة، مقدامة، يتمتع بحس قراءة مستقبل الأحداث، وتحليل وفهم الظروف، ولديه إمكانية إقناع قوية وموهبة في تفسير الأمور بطريقة واضحة وبسيطة، صابرا طويل الأناة، هادئ الأعصاب، يمضي ساعات طويلة في لعب الشطرنج وهمه التدريب وليس الفوز.

 جسد فهد في وصاياه التي تركها لرفاقه ما يؤمن به، والتي ستبقى منارا لحياة الشيوعيين العراقيين الخاصة والعامة، تلهمهم الصمود لمواصلة النضال وتكون سلاحا ماضيا في تحدي ظروف الارهاب والظلامية والأحتلال.

 فوصيته القائلة: ( ايها الرفيق : صن لقب الرفيق واسم الشيوعي من كل شائبة ) لهي جرس انذار يرن لكل من يحاول الأساءة لأسم الشيوعي، ويطالب في وصاياه رفاقه  بحب الشعب والوطن، وعدم الأكتفاء بذلك بل يجب ان يكون الشيوعي في مقدمة المناضلين من اجل حرية الوطن وسعادة الشعب، ويؤكد على مسألة اساسية وهامة وهي الثقة بالشعب وعدم الارتكاز على العوامل الخارجية والارتهان لها في موضوعة تحرير الشعب.

  ولكون الحزب الشيوعي هو حزب الطبقة العاملة فيصبح من الأساسي حب هذه الطبقة والنضال من اجل تحقيق اهدافها,و يدعو  الى كره الفاشية ويؤكد على ضرورة ان يكون هذا الكره فكرا وقلبا، ولأيمان الماركسية بحق الشعوب في تقرير مصيرها والمساواة بين البشر، يطلب فهد الدفاع عن مبدأ الأخوة بين الشعوب.

  ولكون الانتهازية داء يصيب الحركة النضالية بالوهن، لا بل يشل حركتها، حذر منها فهد وطالب بمحاربتها.

  ولأيمان فهد بثورية الشيوعية، اعتبر ان الشيوعيون هم الورثة الحقيقيين لتراث شعبنا الثوري، وطلب المحافظة على تقاليد شعبنا الثورية التي هي الأساس لتراكم هذه النضالات  وكون حزبنا الشيوعي لم يكن طارئا، بل املته ظروف ذاتية واستوجبت نشوئه.

 وحول نظرة الشيوعيين الى  العلم والفن والادب والثقافة بصورة عامة، اكد فهد على وجوب ان تكون نظرتهم تقدمية لها، والمتابع لتاريخ الحزب الشيوعي العراقي  يستطيع ملاحظة ان اغلب المثقفين خرجوا من معطفه.

  وكما سبق الأشارة له ان فهد ربى رفاقه على نكران الذات والتضحية، يؤكد  على ضرورة واهمية تحلي الشيوعيين بالصفات الحميدة التي تسهل مهمتهم في كسب وقيادة الجماهير التي هي السياج الحقيقي للحزب، وتقوية الصلات معها يجب ان يأتي من خلال مساعدتها ومن خلال الدفاع عن مصالحها، ثم يلتفت الى اهمية الضبط الحزبي، الذي بدونه يتحول الحزب الى نادي للنقاش.

 لعمري ان وصايا الرفيق الخالد فهد لعبت دورا مؤثرا ومهما في مواصلة الحزب لنضاله رغم اقسى ظروف الارهاب والقمع التي تعرض لها، وما نلحظه من الخسارة لجماهيرنا ورفاقنا فمن اسبابها عدم الأخذ بهذه الوصايا وضعف الأهتمام بها، وبمناسبة الذكرى الخامسة بعد المائة لميلاد الرفيق الخالد فهد، فنحن بأمس الحاجة الى العودة لهذه الوصايا والعمل بها.

 و صدق الرفيق الراحل زكي خيري حين قال :

  (كان فهد مربيا للرجال، انسانا وانسانيا من كل الأوجه بقدر ما كان ثوريا صارما). 

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com