لماذا يعادي المسلمون العقل؟
محمد عبد المجيد / رئيس تحرير طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
Taeralshmal@gawab.com
Taeralshmal@hotmail.com
كانت رسالته شديدة اللهجة وهو يُضْمِنها بعض شتائمه كبُهارات لاعطائها نكهة تليق بمحتواها، وعاتبني لأنني طالبت بأن يلجأ المسلمون للعقل والمنطق والفكر الموضوعي كلما واجهتهم أزمة، فالنقل المسطري لخلافات مضت عليها قرون طويلة يُزيد حماس المتصارعين على قضية لم تحسمها الأمة منذ مئات السنوات.
فكتب لي قائلا: إن الاسلام دين الإيمان وأن العقل يقوم بالتشويش على القلب، وأن اللجوء للتفكير المنطقي أمر مكروه في الاسلام.
كان صاحبنا يعبر عن ( عقل !!) ملايين المسلمين الذين تخلفوا عن ركب الحضارة فاتهموها بكل الموبقات تماما كما فعل الثعلب الذي لم يصل لعنقود العنب فقال لا بأس عساه أن يكون حُصّرُما!
علاج المريض يبدأ حين يعترف أنه فعلا مريض.
والمسلمون لم يعترفوا بعد بأنهم في ذيل ركب الحضارة لأن هجرة العقل أصبحت عقلا جماعيا يعاني مَنْ لم يلحق بمسلمي النقل مشاعر الدونية والعزلة وربما الاتهامات التي تصل إلى الفكر والزندقة.
وشروط العقل غير متوفرة لأن في مقدمتها الحرية المطلقة في البحث والسؤال والاستفسار وكسر حاجز الخوف والقفز فوق الخطوط الحمراء ومصارعة ( التابو ) الذي يقف حاجزا منيعا أمام من تُسَوّل له نفسه الاقتراب من محرمات وضعتها حِقِبٌ طويلة من الجمود والسكون ومخاصمة الجماهير لأولي الألباب الذين يتفكرون في خلق السماوات والأرض، واختلاف ألسنتنا وثقافاتنا وظروف كل زمن وجيل.
لو كنت تعرض مُلابسات موضوع ما فإن من يستمع إليك من جيل مضى سيدرك أن شططا قد دلف بين سطور قضيتك التي تعرضها لأن الفارق الزمني يعني في الأساس فارقا فكريا وثقافيا وظرفيا ومكانيا.
فإذا استمع إليك من أمدّ اللهُ في عمره لجيلين مضيا فسيدرك على الفور أنكما من زمنين لا يلتقيان إلا لِمَاماً، ولا يتقابلان إلا قليلا.
ولك أن تتخيل عالِماً عظيما ومُصلِحا كبيرا وقد بعثه الله من مرقده الذي استضافه لألف عام، ثم قضى معك يومين أو أكثر كقرين لك في العمل والبيت والمكتبة والشارع والقطار والطائرة وأمام التلفزيون، وذهب معك إلى السينما لمشاهدة فيلم حديث، وفتحت أمامه جهاز الكمبيوتر، وقضيت عدة ساعات تتابع قضايا العالم كله، وتقرأ من مكتبة الكونجرس، وتتطلع على عناوين الكتب في معرض دولي، وتتابع معارك المسلمين الفكرية في فرنسا وأمريكا وأستراليا ونيجيريا وإندونيسيا، ثم تمرر الماوس سريعا على مواقع الالحاد والنقد الديني الحاد، ولا مانع من تصفح مواقع اباحية، وقراءة تقارير عن الفقر والمرض والمجاعات.
بعد ذلك تقف في مواجهة ضيفك العزيز الذي توفاه الله ألف سنة، وتسأله الرأي والمشورة والنصيحة في أمور تخص عالمك!
أغلب الظن أنه سيفر منك فرار أهل الكهف، ولن يستطيع الاجابة عن سؤال واحد مما تطرحه عليه.
ولكن ماذا سيحدث لو أنه صَدَمَك بنفّيه التام أن تكون أخباره المتواترة إليك قد جاءتك صحيحة ولم تغيرها مئات الأعوام عشرين أو ثلاثين أو سبعين مرة ؟
تلك هي قضية المسلمين مع العقل والنقل والتي يخلط فيها المسلمون الدين الصحيح الذي أوحى رب العزة لنبيه الكريم بكلمات لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، فضَمّ المسلمون حَيَواتِ وأعمال وأفكار وأحاديث العلماء والفقهاء في زمنهم إلى مقدسات الدين.
كيف قام مسلمو العصر الحديث بتصغير أنفسهم وعالمهم وثقافتهم وانصهارهم في عالم انساني أكبر وأوسع وأشمل، ثم استعانوا بكتب الماضي لحل قضايا الحاضر والتمهيد لصناعة المستقبل؟
عشرات الآلاف من روائع الفكر الاسلامي والانساني في مختلف المجالات تعيش في مجلدات وكتب ومخطوطات نُجرِم في حق أنفسنا لو أهملناها، وتتضاعف الجريمة إنْ جعلناها مرجعا لعالمنا الذي لم يعرف عنه صانعو الماضي شيئا قط، ولم يكن بامكان أحد منذ خمسين عاما أن يتخيل المشهد التفصيلي لعالم اليوم، فكيف بمئات الأعوام من هذا الفاصل الزمني السحيق؟
من هذا العالم الماضيوي لجأ أباطرة الفتوى إلى الاستعانة بكتب كهفية لمحاصرة الفكر ومخاصمة العقل، وتكبيل الحرية بقيود متخلفة في محاولة لاغراق المسلمين في عالم الصغائر والتفاهات وجعلهم في خدمة الاستبداد والطغاة.
أول نافذة يفتحها العقل لدَى تحرره هي التسامح واعتبار الاختلافات بين الناس في الرؤى أمورا طبيعية، بل يعتبر العقل أن من أولى واجباته في احترام ذلك المخلوق الذي خلقه الله وعَلّمه الأسماءَ كلها وطلب من الملائكة أن تسجد له، هو الدفاع عن حرية الفكر المخالِف في أن يُطِلّ برأسه، ويقف في الساحة متساويا مع غيره، ويتحدى بما يملك من معلومات وقدرات ثقافية واستنتاجات ومنطق موضوعي كل من يخالفه.
العنصرية والطائفية والارهاب والحروب الأهلية ودعم الطغاة وممارسة الاضطهاد ضد المخالفين ومطاردة العلماء والتفريق بين الأزواج ورفع المصاحف فوق السيوف وتهديد المخالفين و .. كلها افرازات معاداة المسلمين للعقل.
عندما انسحب الدكتور سيد القمني من الساحة بعدما تلقى تهديدا بأن يعتذر ويلقي القلم في غضون ايام معدودات وإلا فقد حياته وأسرته، صمتت الأمة كلها برجالها وشجعانها وعلمائها وفقهائها ومثقفيها، وخرست ألسنة تلهج آناء الليل وأطراف النهار بذكر الله، فهي في الواقع منحازة لجلادي الفكر وسيّافي العقل.
ولا يزال الدكتور نصر حامد أبو زيد يلقي محاضراته في جامعات هولندا لأن مسلمي بلده والعالم الاسلامي ليسوا قادرين على مناقشته، بغض النظر عن الصواب والخطأ فيها. وكما تلّوح السلطةُ بسوطها أمام عيون رعاياها وعبيدها، فإن خصوم العقل يلوحون بالسيف أمام رقاب كل من تسوّل له نفسه فكرة استخدام العقل، وحرية التفكير، والخروج على عصا حَمَلة صكوك الغفران.
أيها المسلمون،
عندما تملكون شجاعة التسامح التي تؤكد قوة إيمانكم وثقتكم بأن هذا دين الحق الذي حفظه الحق جل جلاله، فهنا تبدأ مرحلة الصعود واللحاق بركب العصر، وبدون العقل والتسامح سنظل لخمسة قرون أخرى على هامش الزمن أو عالة على أمم الأرض.