الدّمُ الحَرَام

نضال نعيسة

sami3x2000@yahoo.com

كثيرة هي العظات، والمحاضرات التي كنا نتلقاها حول الدم الحرام، الذي يجب ألا يهدر، ويزهق إلا بوجه حق، وبأمر، ووصية، وتوكيل. ولم يكن لدى أي منا أدنى شك أن القيامة ستقوم، والثائرات ستثور فيما لو أريقت أية نقطة دم من دمائنا بغير وجه حق. وقد تغنى الشعراء والكتاب بهذا كثيراً، وأنشدوا الكثير من القصائد، ودبجوا موسوعات من المقالات. ولكن، يبدو أنه، ومع مرور الأيام، أن هذا الكلام كله، محض كذب، وافتراء، وهراء بهراء. ورأينا، ونرى، كل يوم، كيف تسفح، وتراق، وتهدر الدماء هنا، وهناك. وكيف تستباح الأرواح، وتقصف الأعمار بدون حساب. وما من يوم يمر، إلا ّويسقط عشرات، وربما مئات، ممن تـُخضب أجسادهم بالدم المستباح. هذا هو الدم الحيد، على وجه الأرض، الذي لم يعد حراما، وصار سهلاً جداً أن يستبيحه أي كان. سيرك الموت العربي، الذي لم يتوقف، يوماً، من الأيام، مستمر، وبنجاح منقطع النظير، وفي كل يوم هناك المزيد من الضحايا، والأرواح.
هذا، ولم تبق دولة من دول العالم، لم تجرب حظّها، وقوتها، وأسلحتها، الخفيفة، والثقيلة، والمحرمة، وأحدث مخترعاتها الحربية بأجساد هذه الشعوب، التي لا تملك أية قدرة لصد هذه الاعتداءات، ولا تمتلك أي خيار آخر سوى تلقى هذا الموت الهاطل من أعالي السماء، والشكوى إلى الله، هذا إذا تركت لها آلات الموت الرهيبة، أية فرصة أخيرة للكلام. أطفال فلسطين، والعراق، يموتون يومياً على قارعة الطرقات، ودماؤهم لا تستثير عزة، ونخوة العربان، وسماسرة السلام، ووسطاء بيع الأوطان. ولم تتحرك ماكينة الديبلوماسية العربية، لكل أولئك الشهداء، والضحايا الأبرياء، الذين سقطوا في سيرك الموت العربي، لا بل، كانت تقابله، أحيانا،ً بتشفٍ، وصمتٍ، واضحين. وكانت المؤتمرات الخجولة، تلتئم بخجل، وتخرج بنتائج، وتوصيات أكثر خجلاً، سرعان ما تجد طريقها السالك إلى سلال المهملات. ولم تستطع تلك الديبلوماسية العاجزة، كديبلوماسييها بالذات، أن تحرز، أي تقدم، أو، أن تخدم، أية قضية على الإطلاق، هذا إن لم تكن قد ساهمت، وساعدت، وسببت لها بالمزيد، والكثير من الأذى، والأضرار، والويلات.
اجتياح أفغانستان، واحتلال العراق، وقصف جنوب لبنان، وأمطار الصيف في إسرائيل، وكل تلك العمليات، التي أخذت شتى المسميات، التي تستفز الأعصاب، أو كل عمليات التصفيات، التي كانت تستهدف ناشطين، هنا، وهناك، كانت ثأراً، وانتصاراً، لضحايا غربيين، أو مجرد جندي إسرائيلي، وقع في الأسر، في أثناء عملية عسكرية، بطولية، منفذة بحرفية، وإتقان. وأما كل تلك العمليات الانتحارية العبثية، فلم تفلح في زعزعة تصميمهم، على احترام دماء شعوبهم، والانتقام لها، وازدراء دمائنا على الدوام. ولن تقعد الحكومات الغربية، يوماً، عن نصرة دماء أبنائها، التي تراق بشكل ما، بل تردّ الصاع صاعين، والكيل كيلين، والويل ويلين، ولن تلتزم الصمت، وتلجأ للخيار الديبلوماسي، كما يفعل ديبلوماسيو العربان الشطار، من فوق وتحت الطاولة، ووراء الستار، ويرسلون المبعوثين، وشتى أنواع الوساطات.
هذه هي ديبلوماستهم العسكرية التي لا تقبل المساومة، والجدال، وهذه هي رسائلهم القوية نصرة لدماء، وحياة أبنائهم، في محاولة لإفهام العالم أجمع بأن دماء هؤلاء عزيزة على حكوماتهم، وشعوبهم، على حد سواء، ولا مجال أبداً، للوقوف مكتوفي الأيدي، حيال أي انتهاك لهذه المقدسات التي تكسب حكوماتهم الشرعية، والبقاء، وأتوا بموجب قسم خاص للحفاظ عليها إلى سدة الرئاسات، ولذا، لا مجال للتهاون حين يتم الاعتداء على أي من هذه الأرواح. إنها رسائل واضحة، ولا لبس أو غموض فيها، ويجب أن يقرأها الجميع بتفهم واتقان. ويا ليت حكوماتنا العربية تزن دماءنا الرخيصة، وأرواحنا البخسة بنفس الميزان، لما كان هذا حالنا على الإطلاق. أو يا حبذا، وعلى الأقل، لو كفت بساطيرها عنا، وقللت من شرورها، وآثامها واعتداءاتها، وانتهاكاتها لهذا الإنسان، الذي أصبح بفضلها، أرخص من البطيخ، والفجل، والبصل، والتراب.
بكل أسف، ومهما تكن المفاجأة صاعقة لكل مغسولي الدماغ، والمفتونين، والمخدوعين بحلو، وعذب، وزيف الكلام، فقد أصبح واضحاً، بما لا يدع مجالاً للشك، أن دماء الغربيين هي الوحيدة الغالية، والتي لا يسمح بأن يستبيحها أو يتطاول عليها أي كان، وتحت أية ذريعة، أو عنوان، وهي التي أصبحت وبالبرهان، والقطع بأنها دم حرام، وثمنها مكلف جدا، وغال. وثمن رأس جندي واحد، بعشرات الرؤوس، من أصحاب "الدم الحلال" والمستباح. أما دماؤنا، فلا ضير، بأن تبقى سلعة رخيصة في كل الأسواق السياسية، ونهباً مباحاً لأي كان، والأنكى من ذلك كله، أنها لا تجد من يتبنى قضيتها ويدافع عنها على الإطلاق. وكأن كل تلك الأحاديث، والإرشادات قد قيلت في سبيل الحفاظ على تلك الدماء. ولتذهب إلى الجحيم، والمزابل كل تلك المواعظ، والمحاضرات عن دمنا المُحرّم، الحرام.

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com