الاجتهاد بين الادعاء والواقعِ

 جلال الحائري

 

 قال تعالى:"فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ"

( سورة التوبة الآية: 122)

 

 كيف يتعامل المؤمن إزاء ما يتعرض له من أزمات ومعضلات ومستجدات؟ وإلى من يلجأ لتفادي المخاطر التي قد تعترض طريقه في الحياة؟ في معرض الإجابة عن هذه التساؤلات أقول مثلما كل من يداهمه مرض الجسد يلجأ إلى الطبيب ويلتزم بنصائحه طلباً للشفاء والبراء، كذلك الذي تتكالب عليه أمراض الروح والتي هي بلا شك أكثر فتكاً بالإنسان من أمراض الجسد، والذي يريد أن يتبين الحكم الشرعي بشأن كل ما يتعلق بقضاياه الدنيوية والأخروية، فالشارع المقدس والعقل السليم يرشده بالذهاب إلى الفقيه الجامع لشرائط التقليد كما ورد في آية الإنذار، ولكن من هو ذلك الفقيه المنقذ للإنسان من المهالك، والآخذ بيده إلى سبيل النجاة، خصوصاً في هذه الأيام التي كثر فيها مدعو الفقاهة والأعلمية والاجتهاد؟! ما هي الضابطة إذن في كبح جماح الإفتاء الديني؟ وما هي آلية حصول العالم على درجة الاجتهاد والإفتاء؟ وهل كل من يدعي الاجتهاد فهو صادق؟ أم هناك ثمة ضوابط وشروط ومقررات ينبغي توفرها في المؤمن تؤهله للقيادة الشرعية وإن هو أحجم عنها؟!

الكثير من الروايات تدل على عظم مسؤولية التصدي للمرجعية، التي تتجسد فيها وراثة الأنبياء، حيث أن الفقهاء أمناء الرسل ووكلاؤهم وحماة الدين، وإلى ما اشترطت الشريعة توفره في المتصدي من العلم والاستقامة والعدالة والورع والتقوى، حيث نجد ما أكّد عليه الإمام أبو محمد الحسن العسكري(عليه السلام) بقوله: «فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً على هواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه» ( وسـائل الشـيعة 18 : 95)

 

لماذا كل هذا التأكيد على نزاهة الفقيه المتصدي؟

الجواب نجده فيما أثر عن الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) بقوله: «مجاري الأمور على أيدي العلماء بالله الأُمناء على حلاله وحرامه» ( مستدرك الوسائل 17 : 316 ). فالذي يبين أحكام الله للناس ينبغي أن يكون على مستوى رفيع من المسؤولية وأن يكون مؤهلاً لاستنباط واستخراج الأحكام الشرعية من الأدلة الأربعة: وهي الكتاب والسنة بشقيها النبوي والإمامي والإجماع والعقل، والاستنباط هذا إضافة إلى استناده للورع والتقوى فهو بحاجة إلى تضلع وإبداع في الكثير من العلوم والمعارف كالنحو والصرف والمنطق والفلسفة والفقه والأصول والتفسير والحديث والرجال وغيرها، إضافة إلى ذلك فهو بحاجة إلى ذوق فقهي يستطيع الفقيه من خلاله تطبيق القواعد الفقهية والمنطقية والفلسفية على جزئيات الأحكام المبتلى بها تطبيقاً صحيحاً، وهو لا يتأتى للفقيه اعتباطاً وإنما يحصل على هذه الملكة من خلال الممارسة الفقهية والاطلاع الكامل على تفاصيل الأحكام وآراء العلماء في هذا الصدد وكذلك إحاطته بتأثيرات الزمان والمكان في صدور الأحكام، ربما يكون العالم مطلعاً ومستوعباً للقواعد الفقهية بيد أنه يخفق في تطبيقها على موارد الأحكام أو يخطأ في تطبيق الكليات على الجزئيات، وهذا الداء هو الشائع في الكثير من مدعي الاجتهاد.

الضابطة في حصول طالب العلم على درجة الاجتهاد هي مناقشاته لآراء العلماء وإبداء رأيه في المداولات التي يطرحها مع أستاذه الذي يفترض أن يكون فقيها جامعاً لشرائط التقليد المذكورة آنفاً، وكذلك كتابة تقريرات الأستاذ مع إبداء رأيه في المسائل الخلافية خاصة، وكتابته البحوث الاستدلالية في بعض أبواب الفقه والأصول، وتعليقاته على بعض الكتب الفقهية المعتمدة كالعروة الوثقى للسيد اليزدي أو الشرائع للعلامة الحلي وغيرها. كل هذا يحصل بإشراف الأستاذ الفقيه الذي يؤيد قوة الاستدلال ومتانته من عدمها وليس بإشراف نفسه أو حاشيته وبطانته!! فالذي يحظى بتأييد المرجع الأستاذ بقوة بحوثه واستدلالاته هو الذي يحصل على درجة الاجتهاد، ويكون قد خطى الخطوة الأولى في استنباط الأحكام من الأدلة الشرعية، وبتمرسه في الاجتهاد في معظم أبواب الفقه، يؤهله ذلك بطرح مرجعيته لإفتاء المؤمنين في أمور دينهم ودنياهم، لأنه حينئذ يكون هو السد المنيع للدين والحافظ للشريعة والمبين للأحكام وبالنتيجة هو حجة الله على العباد، وهذا المنصب إنما حصل عليه في حقيقة الأمر من الإمام الحجة حينما قال: "وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله" (بحار الأنوار: 2 / 90 ح 13 والعوالم: 3 / 410 ح 10 عن الاحتجاج: 470).

ولكي يتعرف المؤمن على مرجع التقليد فهو بحاجة إلى: شهادة مجتهدين عادلين ورعين مستقلين تتضمن إشادة ببلوغه مرحلة الاجتهاد المطلق في كل أبواب الفقه من دون شك أو مواربة، والشياع المفيد للعلم في أوساط العقلاء وأصحاب العلم والفضيلة، والاطمئنان النفسي الذي يبرأ ذمة المقلد بالكسر تجاه المقلد بالفتح أمام الله سبحانه وتعالى. وقد تجتمع شرائط التقليد في شخص واحد فيتعين هو في التصدي للفتيا والقيادة الشرعية، وقد تجتمع في أكثر من شخص واحد فيتعينون جميعاً مادامت صفات النيابة متوفرة فيهم، وقد يبرز من بين هؤلاء فقيه أكثر شيوعاً من زملاءه فتتعين فيه المرجعية العليا من دون إلغاء دور بقية الفقهاء الآخرين.

الفقيه الجامع لشرائط التقليد هو الحلقة في السلسلة الذهبية الممتدة من الإمام الحجة إلى يومنا هذا عبر مئات العلماء والمجتهدين بدءاً من الشيخ المفيد ومروراً بالعلامة الحلي وانتهاءً بالسيد السيستاني، وهذه السلسلة ممتدة ومتواصلة من زمن الغيبة حتى زمن الظهور المبارك لمولانا الحجة، فالسلف يحدد الخلف طبقاً للموازين الشرعية ولا يخاف في ذلك لومة لائم، خصوصاً إذا عرفنا أن المذهب الإمامي بعيد عن ضغوط الحكام والسلاطين، لاسيما في القضايا المصيرية للأمة، وما هو أجل وأعظم من القيادة الشرعية التي يرجع إليها العباد في الاستفتاء بمسائل جوهرية تمس صميم عقائدهم ونكاحهم وعباداتهم ومعاملاتهم وكل ما يتعلق بالشأن الدنيوي والأخروي للأفراد.

ومن أجل عظم هذا المنصب الإلهي، فأن الروايات أكدت على ضرورة تحلي الفقيه بالشرائط التي تؤهله للقيادة في توجيه المقلدين إلى ما هو فيه الخير والصلاح، وكل من يتصدى للفتيا من غير علم وهو خارج نطاق السلسلة الذهبية المتصلة بالمعصوم عليه السلام بالنيابة الصفاتية والعامة، فهو ضالّ مضلٌّ كائناً من يكون لأن الإمام (عليه السلام) قد نهى عن الفتيا بغير علم لأنها مصدر الغواية للناس وضلالهم: (من أفتى الناس بغير علم ولا هدى لعنته ملائكة الرحمن ولعنته ملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتواه) ( أصول الكافي ج1 ص42).

وما يصدر من أولئك الشرذمة من (المتفيقهين) من دعاوى للمناظرة والبحث الاستدلالي للفقهاء الجامعين لشرائط التقليد ما هي إلاً زوبعة في فنجان ولا قيمة علمية لها، لأنها لم تصدر من أهل الفن وحالها كحال المضمد في المجال الطبي عندما يعربد ويزمّر بمناظرة پروفيسور في كلية الطب، ومثلما العقلاء يوصمون المضمد (الطموح)!! بالبلاهة كذلك يوصمون مدعي الفقاهة بالصفاقة، ولا حيلة لمعالجة هكذا موارد إلاّ الترك والإهمال طالما لم تصدر من الند للند وإنما صدرت من المتطفلين على علوم الدين، والغرض من هذه الصيحات المسمومة هو إغواء الناس وإبعادهم عن القيادة الحقيقية للأمة المتمثلة بالفقهاء الأمناء على الدين والأخلاق والاستقامة، وبالتالي تمهيد الطريق أمام الأعداء بدراية أو غيرها لشق عصا المسلمين وتفتيت عضدهم وتبديد قوتهم وتدنيس شأوهم، وهذا ما يجعل المهام الملقاة على عاتق عقلاء الأمة مضاعفا في التصدي لأمثال أولئك المرتزقة لرد كيدهم في نحورهم، وتخليص الدين وأهله من كل أفاك أثيم، وعن الإمام أبي عبد الله جعفر الصادق(ع) قال: أن عيسى بن مريم(ع) قال: داويت المرضى فشفيتهم بإذن الله، وعالجت الموتى فأحييتهم بإذن الله، وعالجت الأحمق فلم أقدر على إصلاحه، فقيل يا روح الله وما الأحمق؟ قال المعجب برأيه ونفسه، الذي يرى الفضل كله له لا عليه، ويوجب الحق كله لنفسه ولا يوجب عليها حقا، فذاك الأحمق الذي لا حيلة في مداواته) ( الاختصاص للمفيد، ص221). لماذا لا حيلة في مداواته؟ لأن منهجه التهريج والخداع والوقيعة بين المؤمنين، وأنه خالي الوفاض من المنهج العلمي، وفاقد الشيء لا يعطيه حتى يصار إلى مناضرته بل الالتفات إلى تخرصاته وغروره وحماقاته.

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com