لم أرَ خلالي تجوالي في أكثر من عاصمة، أو مدينة أجنبية، عَلـَماً، لدولة أخرى، يرفرف على أسطح، وشرفات المنازل، أو"بسطات" بيع الخصار، اللـّهم، إلاّ تلك الأعلام التي ترفرف بخجل، وحياء، فوق مباني، وواجهات، وشرفات السفارات المعتمدة في هذا البلد، أو ذاك. أما الأعلام العربية، فحدّث وبكل حرج، لأنها وعلى ما يبدو، فقد أصبحت في حكم الانقراض، بعد أن تعبت من الخفقان، وبحاجة لمحميات طبيعية وسياسية، لإعادتها للحياة، أو إلى جمعيات خيرية تطوعية، وتعمل لوجه الله، لإحياء ذكراها المريرة، من وقت لآخر، في عقول، وقلوب الناس. فلم أرَ، وصدقاً يا شباب، أحداً يحمل علماً عربياً، ويلوح به، لا في الشرق ولا في الغرب، ولا في الدول الاسكندفافية أو الخنفشارية، ولا في الدول المارقة أو الدول السارقة، ولا في الدول الغنية أو الفقيرة، أو حتى تلك التي على الحصيرة. والأنكى من ذلك كله، ليس حتى من قبل أبناء العروبة ، وفي بلدانهم بالذات، حيث حلـّت صور الزعيم الأوحد، والقائد الضرورة، فهي الصور الوحيدة المسموح رفعها، والتلويح بها، في كافة المناسبات. وأصبحت مشرعة في كل مكان، من باب المطار، وحتى الآخرة حين يزورك الحبيب عزرائيل وينقذك من كل هذه الورطة، وهذا العذاب.
كما أن تلك الأعلام باتت، في الحقيقة، تشكل بضاعة كاسدة "مو جايبة همّها"، لو فكر أي مستثمر جريء، ومغامر شجاع، أن يوظف فقط بضع عشرات من الدولارات، لا غير، في هذه البورصة المعرضة للانهيار. وهذا ليس بسبب أن لا أحد يحب أن يحمل هذه الأعلام، ولا سمح الله، ولكن لأن هذه الأعلام المنكوبة، لم تتعود أن ترفرف بعز، وشرف، أبداً، وظلت منكسة على الدوام، بسبب كثرة الهزائم، والكوارث الوطنية، والقومية، التي كانت تحل الواحدة بعد الأخرى، ناهيك عن جهل الكثيرين بألوان أعلام بلدانهم، بعد أن أصابتهم أنظمة الاستبداد بعمى الألوان الجماعي، الذي جعلهم يتخبطون، ولا يميّزون بين الأبيض والأسود، والليل والنهار، وأَرَتـْهُم ممارسات القمع التعسفية، نجوم الظهر في عز النهار. وبذا فقد صار الطلاق بائناً بين المواطنين وأعلام بلادهم، وحين يضبط أحد متلبساً بحمل علم بلاده، من قبل "الشباب"، فهذه تهمة يكافأ صاحبها بزيارة خاصة، وغير رسمية إلى بيت خالته.
وكثيراً ما تعبر من أمام أية "مصلحة"، أو دائرة حكومية، أو حتى وزارة، لترى الأعلام "تتدلى مهلهلة، ممزقة، وأصبحت كخرق، وأسمال بالية، لا تصلح حتى لمسح زجاج السيارات الفارهة، التي يشبّح بها المسؤولين الأبطال، أمام المساكين والفقراء. وكأن لسان حال مدير هذه المصلحة، وجميع الموظفين فيها يقول، أن العلم الوطني، هو ليس من الأولويات المهنية، طالما أن دولهم قد وظفتهم لمهمة وحيدة، ومقدسة، وقد كرسوا لها جلّ وقتهم، وجهدهم، وهي تفريغ الخزينة، وجيوب المواطنين، على حد سواء، من أي قرش أبيض، خبئوه للحقب الثقيلة السوداء، التي يبدو أنها لن تحل، أبداً، عن كواهل هؤلاء الناس. وبالتوازي تماماً، لو طلبت من أية عينة عشوائية من أي شارع، من شوارع هذه المجتمعات، أن ترسم لك علم بلدها، لأتتك النتائج صاعقة ومفاجئة على مدى الجهل العام بالوان علم البلاد، ليس لأنهم لا يجيدون الرسم، وفنونه كبيكاسو، وفان كوخ، وسلفادور دالي، بل لأنهم لم يروا علم بلادهم في يوم من الأيام، مرفرفاً في أية مناسبة فيها انتصار، أو تم رفعه في عداد المتفوقين والأبطال في أية مسابقة محلية أو عالمية، وبذا بقيت هذه الأعلام مطوية، وطي النسيان. والأهم من هذا كله، علام، ولِم، وفي أية مناسبة سترفع هذه الأعلام، وليس في حياتنا سوى الهزائم والانكسارات.
لكنك، لو طلبت من نفس العينة، إيّاها، أن ترسم لك ألوان فستان نانسي، وأن تـَعُدَّ لك أزرار تنورة هيفاء(على قِلّتها)، أو أن تقول لك اسم ماركة ساعة شعبولا، نجم نجوم المكوجية، وجامعة العربان، أو عدد حلقات سلسال عمرو دياب الذهبي، ومن كم قيراط، في حفلته التي أحياها على شواطئ ميامي، في صيف الألفية، مثلاً، لأتتك النتائج باهرة، ودقيقة، ومتطابقة بشكل مبالغ فيه، ودالـّة، بآن، على عبقرية هذه الذاكرة الشعبية، التي تسجل أدق التفاصيل، والبيانات، ولا تنسى شيئاً، على الإطلاق. وحتى في الاستقبالات الرسمية، التي تتم للزعماء التاريخيين، وهي مناسبة لكي ترفرف فيها الأعلام، ترى الأعلام تنكس أمام عظمة هؤلاء، وتـُفوّت هنا، أيضاً، الفرصة التاريخية، على الجماهير الكادحة المتعطشة للتعرف على علم بلادها. كما أن الكاميرا، والمخرج، وكل الطاقم الفني، وجيش المرافقين، والمخبرين، يكونون مستنفرين جميعاً، في تلكم الأثناء، على إبراز أدق تحركات، ووجوه الزعماء، في تلك اللحظة الخالدة في تاريخ "الأمة" (هذا تعبير لطشته عمداً من عند جارنا الأصولي بياع المشبّك الذي يسكن في قبو قرب أحدى الخمارات)، ناهيك عن أن أحداً لا يتابع، ولا يأبه لهذه الاستقبالات، إضافة إلى الرعب الذي يثيره هؤلاء في نفوس الناس بشكل عام. إضافة إلى أن كل العيون الناعسات السابلات، والأفئدة، والجوارح، والألباب كلها مسمّرة على قنوات هشك بشك، وشخلعني يا ولد، وبطن وخصر عزّوزة الهزّوزة، وأرداف زرعوبة اللهلوبة، وعجز نونا الحنونة، الذي يعتبر مشهوراً ومعروفاً في هذه الأصقاع، وحسب استطلاعات معهد غالوب الشهير أكثر من علم فتح عمورية بالذات، "تبع وامعتصماه"، ما غيره.
ولو انتقلت إلى ضفة أخرى، ودخلت أية مدينة من "مدن الذباب" على غرار مدينة الضباب، "وما حدا أحسن من حدا يا شباب"، لرأيت الأعلام الأجنبية، للدول التي تأهلت للأدوار النهائية في المونديال، ترفرف في كل مكان، في الأزقة، والشوارع، والحارات، وعلى السيارات، وعربات بيع الفول النابت، والبليلا، والخيار، وبسكليتات بياعي غزل البنات، والبوشار البلدي الممتاز، وباصات الهوب هوب، وسرافيس الكراجات، وعلى أسطح المباني, وبيوت الصفيح والتوتياء، وهي تتدلى بغنج، ودلع، ودلال من الشرفات. وتجدها أيضاً، على الجينزات، والـ "تي شيرتات"، وعلى مقدمات الصدور العامرات التي يسيل لها اللعاب، وغير اللعاب، والتي تثير حمية، ونخوة قبائل العربان، أكثر من كل أعلام الجامعة العربية، بما فيهم جزر القمر، وجيبوتي، والصومال. كما تلاحظها، (وبلا مستحى منكم يا "أخوان"، وهذه غير الأخوان "اللي بالكم" منهم، يا شباب) حتى على مؤخرات الصبايا، اللواتي يتهادين كالقبرات وهن متمايلات، وباعتبارها مناطق سياحية هامة مطروقة جداً، ومعالم وطنية، لا يبارحها نظر الوطنيين الأعراب على الإطلاق. ولاعتقدت، والمشهد ذاك، وعلى الفور، أن العولمة قد أضحت في آخر مراحلها النهائية، وأننا أصبحنا، وبفضل هذه الأعلام، جزءً لا يتجزأ من الوحدة الأوروبية، ومجموعة الثماني GROUP8، بعد أن تكون، وعلى شرفنا، قد انضمت إليها أمريكا الشمالية والجنوبية. أو تحسب، أنك في كرنفال احتفالي للأمم المتحدة، يرعاه بنفسه داعية حقوق الأمريكان، أبو كوجو كوفي عنان، ابن أم كوفي عنان رحمها الله، بحضور محمد البرادعي، ولا ريجاني، وممثلين عن جنرالات الأعراب، في المبنى الفخم القائم على الشاطئ الشرقي لجزيرة مانهاتن، على ضفاف نهر الإيست ريفر، بمدينة نيويورك، بمناسبة التوقيع على الاتفاقية الدولية لمنع انتشار الرفس، وللحد من اللبط، ورفع الفلقات الاستراتيجية.
هل هذا دليل على الوطنية المفقودة، وانعدام الإحساس الكلي بها، أم على استمرار عقدة الخواجا، والأجنبي ، و"الفرنجي البرنجي" على الدوام، التي لم نتحرر منها برغم أزعومة الاستقلال، والتحرر من الاستعمار، التي يُحتفل بها في كل عام؟ أم هو عقدة ورغبة التعويض، حيث لم نفلح في تسجيل أي انتصار، وفي أي مضمار، ولم نحتل سوى المراكز السفلية، والدنيا، في كافة السباقات، والمنافسات الشريفة، أما غير الشريفة، فنحن فيها أبطال، وبلا منازع، ونتربع من خلالها على القمم، وعلى الدوام، ولنا فيها شرف الريادة، والسبق، وهي موضوع لبحث آخر على كل حال.
هل من داعٍ، بعد كل هذا العك والعياء، أن تلام هذه الجماهير على عدم التلويح بأعلام بلادها؟ ويبقى السؤال الأهم: متى سترفرف هذه الأعلام؟