يتخطى الموقف الراهن من المواجهات الدامية، والقصف الوحشي، الذي يتعرض له المدنيون الآمنون، كل بعد سياسي، وحسابات بازارية، وشخصية أخرى. فلقد سقطت آخر أقنعة الزيف، والرياء السياسي، وديبلوماسية العبث، والفراغ التي لم تعن يوماً، سوى مقايضة الدماء، بالجثث والأشلاء، والمتاجرة بمستقبل الأوطان. وليس من الشهامة، والفروسية، في شيء، التفرج على حمام الدم هذا، والوقوف بصمت، لاعتبارات، وحسابات سياسية واهية, وإلقاء اللوم على هذا الطرف، أو ذاك. ومن لا يكفيه رصيده الأخلاقي، وتاريخه الموبوء، وارتباطاته المشبوهة، وتبعيته المعهودة، الوقوف موقف شرف، ورجولة، وإباء، فلا يجدر به أن يسلك سلوك النعامات، ويدفن رأسه في الرمال، ويقلب المبادئ، والقيم، والمعارف، والمعتقدات، و"يادار ما دخلك شر"، ويقتنع، بما يتهيأ له، من تخيلات، وتصورات، ومنامات. ومن واجب جميع القوى المحبة للسلام، والمناهضة للعدوان، والتهجير، إدانة هذه الاعتداءات الجبانة الآثمة، التي لم توفر ملة، ولا ديناً، ولا طائفة، ولا تيّاراً، والوقوف بحزم ضدها، وفضح وحشيتها، وساديتها، التي لا ترحم.
"من رأى منكم منكراً فليغيره....". فهل هناك من منكر أكبر، الآن، من إزهاق هذه الأرواح بهذا الشكل الجماعي الفاجر، واسترخاص الحياة البشرية، التي كرمتها جميع الشرائع والديانات؟ ليس هناك من منكر، مثل السكوت على وحشية جنرالات الاحتلال، وتواطؤ الأخوة الألداء، وطغيان الخيانة، والصمت، والعار على المشهد العام. لا منكر ، البتة، مثل قلب الحق بالطل، والباطل حق، والنظر للأشياء بعيون لئيمة، عوراء. ولا منكر مثل التشفي، والفرح، وصم الآذان عن كل هذا الأنين، والأوجاع.
لبنان الضحية ينزف بألم، ويئن تحت وطأة التواطؤ الدولي، وسماسرة النظام الرسمي العربي، ومحامو الشيطان، وكتبة السلاطين المشعوذين المشغولين، في هذه الأثناء، بتحديد الوقت الأنسب، بيولوجياً، للكائن البشري، لكي يستشعر كرامته، وعزته. هل هو مثلاً، حين يصبح برميل النفط بألف دولار؟ أم حين تستنفذ آخر ذرة من كبرياء، وتسقط جميع أوراق التوت، وتكشف العورات؟ أم حين تغتصب آخر طفلة، على مرأى ومسمع من هؤلاء، ويُيَتمّ كل الأبناء، وتثكل جميع النساء، وتترمل كل الأمهات؟ أم حين يهدم آخر عش زوجي دافئ على الرضّع، والأطفال؟ أم حين يصل "البَلّ" إلى ذقون الجميع، وبعد أن تكون قد أكلت جميع، الثيران، و"التيوس"، والأكباش؟ متى سيأتي زمن الكرامة الموؤودة الذي يحدده لنا هؤلاء الاستراتيجيون العظام، بعد أن أصبحت أصابع الجميع، ودون استثناء، في اللهيب والنار؟ وما الذي جنوه من "جنوحهم" للسلم كل هذه السنوات سوى مزيد من الفقر، والتردي، والخزي، والعار؟
إن جميع التبريرات، وآلات الكذب الرخيصة، والصحف الصفراء، والألسنة الملوثة والمروضة لتجتر كل المواقف، في شتى المناسبات، لن تستطيع أن تغيّر من طبيعة العدوان الوحشي الغدّار، أو أن تحجب هذا الوهج الساطع لشمس الحقيقة الذي لا يختلف عليه إثنان.
مهما تكن المواقف المتباينة من حزب الله، وأياً تكن الدوافع، والبواعث لذاك، فإن هذا لا يبرر هذا الصمت المشين، والمخزي، والوقوف في صف الأعداء، وآلة الموت العمياء، تحصد يومياً أرواح عشرات الأطفال، والنسوة، والفقراء الذين تقطعت بهم السبل، وليس لديهم مارينز، وحاملات طائرات، وسفن إنقاذ تحملهم إلى بلاد الأمان، أو بوارج، أو مدمرات تنقلهم من هذا السعير الذي يحرق الأخضر واليابس، ويقتل كل شكل من أشكال الحياة.
هذا القتل، والموت الجنوني لا يبرر تحت أية ذريعة، وادعاء، وهو موقف للتاريخ لكل وطني مخلص، ما زال يحمل في قلبه شيئاً، من الإنسانية، والعطف، والانتماء. لقد تخطّى الموقف موضوع عملية عسكرية بسيطة، أو اختطاف جنديين ليصبح موضوع وطن، وشعب بأكمله يتعرض للإبادة، والموت، والخطف، والاحتراق، والحصار. وإذا كان البعض، يجد متسعاً لفلسفة الأشياء، فهذا لا يعني بالضرورة، التلكؤ في إدانة العدوان، أو التموضع في صف السماسرة، وتجار الدماء، المناوئ لآمال وتطلعات الشعوب ومشاعرها، وعواطفها.
معك يا لبنان الفقراء، والشرفاء، "واللهم والي من والاه، وعادي من عاداه. اللهم انصر من نصره، واخذل من خذله".