بعض مثالب إعلامنا ووضعنا الراهن وتشوهاتهما؟

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

tayseer54@hotmail.com

كثيرة هي الجرائم المرتكبة بحق العراقيين اليوم، وكثيرة أنواعها وأهدافها، مثلما هي كثيرة الجهات والأسباب التي تقف وراء كثرة الجرائم المتفشية اليوم في بلاد الحضارة والسلم والخيرات.

 إنَّها حالة من الانفلات الأمني التي خرجت عن السيطرة، لأسباب منها الرئيس ومنها الثانوي؛ وما ينبغي على القوى الوطنية الديموقراطية التي تتصدى للوضع اليوم هو اتخاذ القرارات الحاسمة والعاجلة في تشخيص دقيق للوضع وأولويات أو أسبقيات العمل لمعالجته الجذرية..

 ولأنَّ الإعلام هو واحد من أبرز مرجعيات تشكيل الرأي العام وتوجيهه، فإنَّه تقع على من يكتب فيه ويرسل رؤاه وتحليلاته عبره أنْ يتحرى الدقة والموضوعية وأنْ يلتزم الروح الوطني لا التقسيمي المرضي الطائفي منه والإرهابي فكلاهما دليل للتطرف والتشدد ومن ثمَّ لتوليد أرضية خصبة لأمراض تستبيح العراقيين وتستهتر في استلابهم واسترخاص حيواتهم وحقوقهم كافة...

 إنَّ ظاهرة تعمّق حريات التعبير وتوسع الإمكانات المتاحة لها أمر رائع ومفيد..

 ونحن نجد فيما نقرأه اليوم ضمن ظاهرة عامة حالة اتساع كمِّ الأصوات أو عددها من تلك (الأصوات) التي تعبر عن رؤاها وتصوراتها عبر الفضائيات وعبر شبكة الإنترنت وأجهزة الإعلام الأخرى..

 غير أنَّ المشكل في مثل هذه الظاهرة لا يكمن في التوسع الإيجابي للتعبير عن الرأي ولكن يكمن في تحزب المؤسسات الإعلامية ومؤسسات البحث والاستقصاء للرأي حتى أنّ أية فضائية معينة لا تترك إلا مساحة جد ضئيلة للصوت الآخر ليظهر عبرها وفوق ذلك فهي تضع هذه المساحة بطريقة مجيَّرة تماما لخدمة الخطة العامة [المتحزبة المرضية] لتصوراتها..

 فهناك مراكز دراسات وإحصاء تورد أرقاما ونسبا إحصائية تؤكد توجها بعينه وترفض تقديم أية رؤية يمكن أنْ تناقض الخط العام لمسيرة الأمور وسطوة جهات بعينها على المشهد السياسي بوساطة العصا والجزرة وحال اختلال التوازنات في الحياة العامة لصالح وضع مقصود بعينه..

 والحال هنا يدفع لعدم الثقة في كبريات المراكز مثلما يرفض العاقل الرشيد القبول بتلك المؤسسات الهامشية مدفوعة الأجر في ما تقدمه مصنوعا لخدمة طبخة سياسية أو اجتماعية أو [علمية]..

 ولا نستثني من ذلك حالة نتائج انتخابات تجري تحت سلطة أو توجيه قوى العنف وميليشيات ومافيات ايا كان لونها...

 وبالتركيز على بعض مثالب الجهاز الإعلامي ومنه المواقع الألكترونية نجد أنَّ حال التسابق من أجل التنويع بالأسماء قد جاء بخلط الحابل بالنابل على جمهور لم يسبق له التعرف لعلمائه ومفكريه وهو لأول مرة وفي ظل الانفتاح غير المحدود وغير المشروط بأسس موضوعية، يجري طمس الأَعلام المتخصصة بين فيض من الكتابات العادية والأصوات المبتدئة حتى لايعرف المرء أين يتجه ولمن؛ ما يؤدي لمحاصرة الأقلام المميزة الخبيرة بهذه الطريقة في عرض الدراسات تلك..

 ومن يقرأ لمفكر أو متخصص يتابع بُعيد ذلك مباشرة بقراءة أصوات الرطانة التي تردد عبارات كبيرة وتستند إلى مصادر كتلك التي أشرنا إليها ولإحصاءاتها المفبركة للتو؛ ما يشوِّش على القارئ ويدفع به بالمحصلة النهائية للوقوع أسير التوجه المرضي العام..

 بخاصة في ظل حالة التسطيح والاستلاب الفكري بلغة تصعيد خطاب المشاعر والانفعالات والمصالح الفئوية الضيقة وكأنها هي المقدَّمَة لكنها في حقيقة الأمر مغيَّبة تماما وبعيدة عن أبسط تلبية.. سوى بفرقعة الكلام وطغيان الوعود الكاذبة الدعية,, وتبرير عدم التنفيذ بعد ذلك جاهز وبارز للعيان..

 لقد سبق لي ولعديد غيري أن اقترحنا تنقية المواقع من خلط الأوراق ومن تقديم القراءات بتلك الطريقة التي تشوِّش على الرأي العام.. وأن نتوقف فيما يجب التوقف عنه عن السماح للغة مرضية تخدم الروح الطائفي والإرهابي من المرور المتخفي المبيَّت المخططات والمعلن المبرَّر بأخطاء الآخر من دون خجل أو وجل من ظهور المسحة الطائفية على أساس الاكتفاء بالتبرير ولغة العين بالعين وأن خطأ [الآخر] يبرّر أنْ أمضي بما ينبغي ألا أفعله...

 وقد يجد الطائفي والإرهابي أسبابا يبحث لها عن الخلفية [الموضوعية] من مثل الحديث عن المظلومية التاريخية لفريق أو فئة أو عن أية ذرائع أخرى يتم إسقاط السببية الموضوعية عليها فيما هي لا تعدو عن تذرّع وإيهام وتضليل! إنَّ ممّا يلزم البحث فيه هو لغة الإعلام لأنها بقصد أو بغير قصد تدفع باتجاه غير مرغوب فيه.. ولنأخذ هنا تلك اللغة غير المقصود من ورائها العبث الطائفي.

 وخلل اللغة الإعلامية (لغة التعبير عن رأي أو عن شعور أو موقف بعينه) يكمن في سذاجة كاتب وكونه مجرد مبتدئ في كتابة مادة يخط لأول مرة نصّاَ َ رغبة في مراهقة سياسية أو حبا في ظهور شخصي لأسباب يعرفها علماء النفس..

 وإلى جانب هذه الحقيقة فإنّنا نشهد اليوم خللا معجميا فاضحا بسبب من تخلف جيل كامل عن القراءة وعن توسيع الثروة المعجمية فنسقط بسببه لا في خلل استخدام المصطلح في غير موضعه بل حتى في خلل استخدام اللغة استخداما مشوها..

 وهذا لا يعود لضعف القراءة لوحده بل أحيانا لتعددية أسلوبية ومعجمية في استخدام المفردة اللغوية ما يعطي إفراطا في مستويات متدنية لصحة الدلالة المستهدفة وهو تفريط في جوهر المشترك المعجمي حتى لمعنى المفردة وأبعد منه لمعنى الصياغة الصرفية والنحوية لعبارة أو أخرى..

 إنَّ تخلـّف المعرفة اللغوية يقع في مستويات عديدة ينبغي لنا تداركها لا في المدرسة حسب بل في البيت والشارع والسوق ومؤسسات مجتمعنا المتعددة.

 ولعلنا إذا ما أجرينا فحصا شاملا لهذا المعطى الخطير فسنجد أننا في كارثة كوننا بلا لسان إنساني يفي تلبية تناول حاجاتنا القائمة؛ آملا هنا أنْ أذكِّر المشرفين على المدرسة على أقل تقدير أن يكون لديهم إحصاء لعدد المفردات التي يمتلكها التلميذ (الإنسان) من لغته في كل مرحلة دراسية فهل يوجد هذا في مدرستنا؟ وهل يعرف مشرفو اليوم هذه الحقيقة بمعنى الالتفات العملي إليها؟ أيها السادة المشكلة في أن من لا يقرأ يقع في مثل هذه الخطيئة وأنه عندما يكتب سيكتب بحدود لا معرفته وخبراته الساذجة حسب بل بمستوى محدودية ثروته المعجمية ما يجعله يأخذ من يمينه ويساره تلك العبارات النمطية المكرورة الشائعة فيضعها كيفما عنَّ له الأمر ونأتي نحن لنقرأ له ونمضي في عبثية مرضية شوهاء..

 وباستمرار في ذكر أمور أخرى تدخل في التطبيل للمَرَضي في إعلامنا فيكمن مثلا في تركيز كاتب أو آخر على ما يعتقده هو الرئيس في مشكل العراق القائم..

 كأن يرى الطائفية مرضا أخطر يصيب العراق ومستقبله أكثر من الأعمال الإرهابية من تفجيرات انتحارية وقد يرى من هؤلاء أن هذه التفجيرات هي جزئية مكمِّلة لمخططات الطائفيين وبدفع خفي منهم فيهاجمُ هو طائفيين يدَّعون دفاعا عن مظلومية الشيعة ويترك بتركيزه على هذه الرؤية فضح جرائم الإرهابيين من الفئة الأخرى؟! إنَّ هذه الحالة تحتاج لتنبيه ولكن لا يجب عدّها أو وضعها في خانة الروح الطائفي طالما جاءت تهاجم الروح الطائفي ومسببيه وعلينا استثمارها مع كتابات أخرى مقابلة ترى أنَّ المشكلة الرئيسة في الإرهاب التكفيري الزاعم الانتماء لأهل السنّة حيث أنّ الاتجاهين يعملان وإنْ من جهة المظهر على إدانة جريمتين كبريين بحق العراقيين وتأكيدا لابد من ملاقاتهما مع بعضهما وتفعيلهما بصبِّ تأثيرهما في خدمة فضح الجرائم كافة وفي العمل على الانتهاء من الجريمتين في البلاد..

 إنَّ العقل السياسي السديد والهادئ في نشاطه وحركته ينبغي أن يعرف بِمَ يبدأ؟ وما العمل في كل مرحلة بعينها وفي كل مكان محدد؟ وإلا فإنَّ خوض الحرب على عشرات أو مئات الجبهات يشتت الجهد ويضعفه بما يجعل الأزمة في اتساع والحل في تراجع.

 فكلما صارت الصورة أكثر ضبابية تعقدت الأزمة واستعصت أكثر على الحل والعلاج..

 ومما يدور اليوم من ذاك الذي نراه في ينصبّ على محاولة إعلاء شأن لغة الروح الوطني ولكنه يقع في أزمة ردِّ الفعل السلبي بمهاجمته أي طرف يتعرض لخبر ويركز عليه ويهمّش خبرا آخر ما يجعل كاتبا أو طرفا يرى في المسألة روحا طائفية أو تغليبا لطائفة أو انتسابا إلى ثقافة زمن مهزوم كزمن الطاغية..

 ويقع الكاتب في محظور روح الاتهام ولغته وهي لغة تفرّق وتشتت لا تجمع ولا تلاقي وهي تهدم لا تبني فما أحرى بنا أن نبلغ رشاد توظيف بعض الأخطاء حيث ينبغي التركيز على مهمة اللقاء الوطني في زمن يكاد يضيِّع الهوية ويغلِّب هوية طائفية تمزيقية تدميرية..

 إنَّ مهمتنا الرئيسة اليوم تكمن في منع تداعياتِ ِ تهدِّد الهوية الوطنية والحضارية العراقية التي دامت آلاف السنين منتصرةَ َ ثقافةَ َ ووجوداَ َ إنسانيا على الرغم من الهزائم العسكرية التي مرت بهذه الأرض عبر غزوات وحروب مرت بشعوب وادي الرافدين التي ظلت موحدة في وجودها المؤسساتي الإنساني الحر التعددي المتفاعل الموحد في جوهره..

 فيما ينبغي أنْ نبقى على وعي بكل تلك التفاصيل والخطايا والجرائم الأخرى بتحييد المعركة مع الثانوي حتى حين وتوظيف بعضها لمصلحة الهدف الرئيس الذي نضع عنب العراقيين في سلته العراقية البحتة...

 وينبغي هنا أن تتوافق الأصوات الكبيرة لكي تكتب بتخطيط مسبق وتنسيق وتوحيد بما يمنح تلك الأصوات التي ينبغي لها أن تتزعم الموقف بقوة وتأثير فتخلق الرأي العام الذي يصنع الحياة ويحاصر العنف والإرهاب ويمنع القوى المسلحة من الميليشيات والعصابات من التمادي في سرقتها أجواء الحياة العامة وتوجيهها توجيها مرضيا...

 ولعلنا في معركتنا اليوم نؤكد أن خيارنا السلمي في عملية سياسية لا يعني أننا ضعفاء وواهمون حالمون بقدر ما يعني قوة دور الثقافي الحضاري لدينا ودوره في حسم معركنا السياسية باتجاه مشرق يؤكد استقرار الأوضاع على الرغم من بشاعة المشهد وهو ليس الأبشع في تاريخنا البعيد والقريب بعد حروب دموية ونكسات ومآس سبق للعراقيين أن مروا بها وانتصرت هويتهم الوطنية المعمَّدة بلغة الفكر والثقافة والحضارة والتمدن..

 وسيبقى لنا وجودنا وهويتنا وقواسمنا الموحدة الغنية بتنوعها الثرية بتعدديتها العميقة الواسعة بأطيافها ومكوناتها العراقية الانتماء تاريخا وحاضرا ومستقبلا مشرقا سامقا بشموخ كيانه الباقي بحضارته...

 فلا ننسى ونحن نتحدث عن هذه الإشراقة أنها لا تدوم إلا بمجموع أطيافنا وألواننا وباحترام كامل تام لكل مكون لبلادنا كما كان ذلك عبر وجودنا ومجد تاريخنا الطويل..

 

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com