المنسيون في لبنان الجريح

 د. عبدالله المدني  باحث و محاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية

elmadani@batelco.com.bh

قد يكون المنسيون في الحرب الدائرة في لبنان كثر و من جنسيات عالمثالثية مختلفة، غير أن المؤكد هو أن أكثر المنسيين هم السريلانكيون الذين يشكلون ثاني اكبر جالية أجنبية في البلاد بعد الفلسطينيين. فطبقا للإحصائيات المتوفرة تستضيف لبنان نحو 93 ألفا من هؤلاء، 86 ألفا منهم من العمالة المنزلية النسوية التي ظلت تصل تباعا خلال العقدين الماضيين لخدمة الأسر اللبنانية بمعدل عشرة آلاف نسمة سنويا. و يمثل هؤلاء جزءا معتبرا من العمالة السريلانكية الوافدة إلى  دول الخليج و الشرق الأوسط و البالغ حجمها حاليا نحو 1.5 مليون نسمة.

 و على حين سارعت دول مثل الولايات المتحدة و بريطانيا و فرنسا و كندا و استراليا إلى إرسال سفن و طائرات لإجلاء رعاياها من لبنان في الأسبوع الأول من اندلاع المعارك الحربية بين إسرائيل  وحزب الله، لم يكترث احد بمصير السريلانكيين، و تركوا يواجهون المجهول بأنفسهم دون أية مساعدة حتى من سلطات بلدهم. و حتى حينما تبرعت الهند بنقل بعضهم على متن سفينتين من أسطولها البحري أرسلتا لإجلاء نحو 12 ألفا من الهنود العاملين في لبنان إلى قبرص، فان من استطاع الوصول منهم إلى ميناء الإقلاع لم يزد على 300 شخص. و هذا بطبيعة يختلف كليا عما حدث أثناء أزمة احتلال الكويت في عام 1990 ، حيث تميز المشهد بإجلاء جماعي سريع تحت رعاية الأمم المتحدة لمعظم المحاصرين في الكويت المحتلة و العراق، و قبل أن تبدأ العمليات الحربية، بل حصل كل المرحلين تقريبا على تعويضات مجزية فيما بعد.

 و لئن سارعت الصحافة السريلانكية إلى التعبير عن الامتنان للهند، الدولة الوحيدة التي لم تعترض على إجلاء ذوي البشرة السمراء من غير مواطنيها من لبنان الجريح، فإنها وجهت نقدا شديدا إلى حكومة بلادها لتقاعسها عن الاهتمام بمصير رعاياها في لبنان في هذه الظروف العصيبة، خاصة و أنها لم تقم حتى بمحاولة الاتصال بتل أبيب لحثها على ضمان سلامة هؤلاء على نحو ما فعلته الفلبين التي لها في لبنان عمالة يقدر حجمها بأكثر من 30 ألف نسمة. و لعل مما زاد الطين بلة أن وزير العمل السريلانكي "أتودا سينيفيراتانا" خرج في هذه الأثناء بتصريح غريب عكس مدى لااكتراث حكومته بأرواح و سلامة رعاياها في المهجر اللبناني و انصباب اهتمامها فقط على ما يحولونه من أموال بالعملة الصعبة. فالوزير دعا سريلانكيي لبنان إلى البقاء هناك و عدم العودة كيلا يتأثر حجم التحويلات المالية للعمالة السريلانكية المهاجرة و التي حققت رقما قياسيا في العام الماضي بوصولها إلى نحو 1.5 بليون دولار. و مما قاله أن السريلانكيين اعتادوا على أجواء القتال  واللااستقرار-  في إشارة إلى الحرب الأهلية الدائرة في بلادهم منذ عام 1983 ما بين قوات الحكومة و ميليشيات حركة نمور التاميل الانفصالية – و بالتالي يمكنهم التكيف مع ظروف لبنان المأساوية، لولا أن أقاربهم في الداخل يحثونهم على العودة.

 و مع تزايد موجة الانتقادات في الداخل و اشتداد المعارك الحربية في لبنان، قررت كولومبو إرسال طائرتين مدنيتين إلى دمشق لنقل رعاياها المحاصرين، إضافة إلى مساعدة قدمتها قطر تمثلت في تخصيص عشر رحلات جوية ما بين دمشق و كولومبو للغرض نفسه. غير أن هذا لم يحل المشكلة إلا لماما في ظل صعوبة الوصول إلى دمشق برا بسبب تدمير طرق المواصلات و الغارات الجوية الإسرائيلية المتواصلة أو بسبب عدم امتلاك المعنيين لأجرة الانتقال، ناهيك عن فقد الكثيرين منهم  لوثائق السفر أثناء الهرب و النزوح أو بسبب احتجازها من قبل كفلائهم. و يمكن تخيل المشهد المأساوي بصورة أفضل إذا ما علمنا أن نسبة كبيرة من العمالة السريلانكية النسوية تعمل لدى اسر أو في مزارع و معامل في الجنوب اللبناني حيث دارت أكثر المعارك و الغارات عنفا  وسخونة، و أن الكثيرات من هؤلاء اجبرن على البقاء من قبل كفلائهن خوفا من خسارة ما دفعوه لقاء استقدامهن، أو تركن مع القليل من المال لحراسة و رعاية الممتلكات على اثر مغادرة أصحابها من ذوي الجنسيات المزدوجة إلى الخارج على عجل، و ذلك طبقا لبعض المقابلات والروايات الحية.

 على أن نكبة سريلانكيي لبنان هي في الحقيقة مضاعفة. فهؤلاء الذين هربوا من الفاقة و الاقتتال العرقي في بلادهم و جاؤوا إلى لبنان بحثا عن مستقبل أفضل لهم و لمن يعولون في وطنهم بعدما استدانوا المال لدفعه إلى مكاتب التوظيف في الخارج، لم يفقدوا الحلم فحسب و إنما فقدوا كل مدخراتهم الضئيلة، بل فقد الكثيرون منهم أرواحهم تحت أنقاض المباني المهدمة دون أن يكترث احد حتى بإعادة أشلائهم إلى أسرهم، بحسب روايات العائدين إلى كولومبو.

 ليس هذا فحسب و إنما هناك من الدراسات ما يفيد بأن تجربة العمالة السريلانكية في لبنان لم تكن مشجعة عموما و سادتها مظاهر سلبية كثيرة، دون أن يعني هذا عدم وجود حالات كثيرة كانت فيها علاقة العامل السريلانكي برب العمل اللبناني سوية و ظروف معيشته ممتازة و فرص تحسين دخله كثيرة. فكما في دول شرق أوسطية أخرى من تلك التي واصلت استقدام عمالة منزلية نسوية من سريلانكا منذ السبعينات، عانت سريلانكيات لبنان من أجور العمل الزهيدة (100 دولار شهريا) و ساعات العمل الطويلة (ما بين 18-20 ساعة يوميا) و تأخير دفع الرواتب الشهرية لمدد طويلة ( 6-18 شهرا)،  ومن حوادث الضرب و الحبس والتقتير في الطعام  والتحرش الجنسي  وغير ذلك مما أظهره فيلم وثائقي نادر في عام 2005  من إخراج اللبنانية "كارول منصور" التي سبق لها الفوز بجائزة سينمائية عالمية عن فيلم وثائقي آخر حول أولاد الشوارع في القاهرة.

 و ظلت معاناة هؤلاء و انتهاك حقوقهم الآدمية مستمرة دون أن يلتفت إليها احد - بما في ذلك حكومتهم التي فضلت عدم مفاتحة السلطات اللبنانية المعنية في الأمر خوفا من لجؤ الأخيرة إلى استقدام حاجتها من العمالة المنزلية من دول أخرى – إلى أن قام الممثل السينمائي السريلانكي المعروف "رانجان رامانيكا" بلفت النظر إليها على اثر زيارته لبيروت في عام 2000 . و منذ ذلك التاريخ قامت جمعيات و مؤسسات حقوقية لبنانية و أجنبية بفتح ملف العمالة السريلانكية في لبنان و الضغط من اجل إنصافها و تحسين ظروفها، لكن دون تحقيق نجاحات مشهودة. و احد أسباب الفشل، هو ذاته السبب السائد في دول الخليج، حيث تتصف العمالة المنزلية النسوية بوضع خاص يحول دون الولوج إلى عوالمها و البحث في مشاكلها، فضلا عن أن المعنيات بالأمر يفضلن في الغالب الأعم الصمت على الشكوى خوفا من إعادتهن إلى بلادهن خاليات الوفاض.

 و يبقى القاسم المشترك بين لبنان و سريلانكا هو أن هذين البلدين الصغيرين، و بغض النظر عن الأسباب والعوامل، وقعا ضحية للحروب و حوادث الاقتتال و العنف و الاغتيالات و التفجير  والخطف و التهجير على مدى السنوات الطويلة الماضية، و بما عطل قدراتهما المتميزة  و ما عرف عن شعبيهما من مواهب خلاقة في مجالات شتى، الأمر الذي حال دون مواصلتهما لخطوات بدت واثقة  ومدروسة و نموذجية نحو النهضة و الرخاء في عقود الاستقلال الأولى، بل اعادهما إلى الوراء أشواطا.

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com