حلبجة وضحايا الأنفال دموع عراقية

د. جرجيس كوليزادة / كاتب كردي عراقي / اربيل

jarjeismh@yahoo.com

حلبجة وضحايا الأنفال بين دموع السماء وبكاء الأرض

حلبجة، تلك المدينة الجبلية الكردية العراقية التي انحنى لها الشرفاء في أرجاء المعمورة احتراما للأرواح البريئة الشهيدة التي زهقت فيها، أصبحت معلما للإنسانية ومعبدا للقرابين البشرية، ورمزا عالميا للسلاح الكيماوي الفتاك الذي حصد نفوسا بشريا هائلا في لحظة زمنية عابرة لم يحس بها لا غبار الزمن ولا ضمير الحكام.

لا شك أن الفاجعة الأليمة، التي يحتفل بها الكوردستانيون والعراقيون في ذكراها يوم السادس عشر شهر آذار من كل عام، تحتل مكانة حزينة خاصة في قلوب الكرد قاطبة وفي قلوب العراقيين عامة، لأنها فاجعة إنسانية كبيرة بمأساتها وفصولها الحزينة الدامية.

هذا الحدث التراجيدي الإنساني الرهيب بدأ أحداثه قبل حلول الساعة الحادية عشرة صباحا بعدة دقائق، حيث إنذهل أهل المدينة الطيبون بموت زؤام وذهبت أحلامهم البسيطة أدراج الريح الصفراء، عندما قامت أربع طائرات حربية بنشر الدمار والموت المغلف برائحة التفاح، تلك الفاكهة المنتشرة في سفوح جبال وسهول ووديان كوردستان الأبية، فقامت الطائرات وبأمر من قائد القوات المسلحة العراقية والرئيس الضرورة وبطل القادسية ومغوار العرب رئيس النظام السابق صدام حسين وبتنفيذ مباشر من المجرم علي الكيمياوي بقذف السلاح المميت على الأهالي الأبرياء والمكون من غاز الخردل وغاز السيانيد لزهق أرواح المدنيين بالآلاف وارتكاب أفضع كارثة إنسانية يدنى لها الجبين، فصارت هذه الإبادة الجماعية لمجاميع بشرية وصمة عار على منفذي الجريمة البشعة الى يوم الدين، أجل موت مغلف برائحة التفاح والدارسين الطيب، لحصد أرواح إنسانية بريئة طاهرة شريفة في حلبجة في مدينة كاملة بسكانها وعوائلها وأطفالها ونسائها وشيوخها، لتنزل بهم سقام موت أسود منتج من معامل ديار العرب باسم العروبة والرسالة الخالدة التي لم تجلب على أمم وشعوب المنطقة إلا الخراب والدمار في بنيان وعقل الانسان وتدمير البنية الحياتية للتواصل والبقاء المبني على الخير والأعمال الصالحة والنيات الطيبة.

أمام هذه المذبحة الجماعية يومها وقف الأمراء والملوك والرؤساء من أمة المسلمين واطئين رؤوسهم تحت أقدامهم، حاملين قلوبا جرداء لا إحساس فيها ولا وجدان فيها. أجل امة بحكامها وشعوبها وقفت موقف المتفرج أمام مشهد إبادة منظمة لمسلمين بمئات الإلوف من الكردستانين.

ولا مبالغة في القول كلما نتذكر هذا الحدث المأساوي، نجد أنفسنا أمام هذه الحقيقة المؤلمة، نحن الكورد أننا نشعر بها بمرارة عميقة لكثرة المأساة التي مررنا بها ولكثرة تعرضنا لحالات الموت والألم الدائم نتيجة السياسة القمعية لنظام الحكم السابق، وزيادة أقول ان هذه الصورة المؤسفة لأصحاب الحكم والمال في حياة العرب والمسلمين، واللوحة التي يقابلها المليئة بصور إنسانية من الغرب تجاه الكوارث والأحداث المأساوية الكبيرة على الساحة الميدانية، يفتح الطريق أمامنا لنتساءل بكل أسف هل يعقل أن يكون الغرب أكثر إنسانية من المسلمين؟! سؤال من حقنا أن نطرحه لنلقى الإجابة عليها بصدور رحبة دون تمييز وبلا إكراه.

فاجعة حلبجة، وعمليات الأنفال السيئة الصيت، أقل ما يمكن القول عن هذه الجرائم المرتكبة بحق الخالق الباري عز وجل وبحق مخلوقاته الكريمة من البشر الذي جعله خليفة على الأرض بمباركة منه، إنها رسمت ونفذت بأيادي مجرمة ملطخة بدماء الأبرياء، أجل إنها كانت خريطة إبادة شاملة رصدت لحصد النفوس البريئة من الكرد العراقيين والممتلكات المادية والموارد الطبيعية، رسمت بأقلام صدامية وعربية ودولية لتسقط بظلالها المشئومة على مدينة حلبجة والمدن الكوردية الكردية باليسان وشيخ وسان في يوم لا يوم بعده وفي زمن لا زمن بعده.

أجل في يوم أسود تعرض الكورد في حلبجة، في يوم 16 آذار من عام 1988 الى أقسى عذاب لسكرات الموت وسط صمت دولي مخيف، سكرات ليس فيها غير الاختناق وسيلان وانهمار الدموع بغزارة من الأعين البريئة الجميلة التي شاءت يومها أن تلاقي ربها في أعالي السماء كشهداء عند ربهم يرزقون، سكرات عمت بفعل انتشار غاز خانق مميت في كافة أرجاء المدينة فتساقطت نتيجتها الجثث في داخل أقبية البيوت الآمنة ووسط الشوارع الفارغة من أطفال ونساء وشيوخ ليحصدهم الموت القادم بأجنحة الطائرات والنسمات المسمومة لغازات رشت برائحة فاكهات طيبة من نفوس شيطانية لم تحصد غير لعنة الله ولعنة الأرواح البريئة من الكوردستانيين، وفي ظل مفردات الموت الملازمة لهذه الفاجعة وفاجعات الأنفال تظهر الوفاء وغيرة الانسان الكوردي حتى في لحظات سكرات الموت فهذا هو السيد عمر خاوه حاول بكل جهد إنسان محروق نجدة ابنه الرضيع ليسقط الاثنان جثثا جامدة خلدهم التاريخ بأروع صورها الإنسانية، وهذا هو إمام جامع المدينة يسقط على إبريق الماء كجثة هامدة وهو يستعد لعملية الوضوء للصلاة وقراءة القرآن الكريم، وهذه العجوز المسنة تضع رأسها فوق راس حفيدها القاطن في المهد، ، وهذا عريسنا الجديد يحاول مساعدة العروس كأنها لحظة غزل أبدية شاهدها الوحيد المرايا التي جسدت صورة موتهما الرهيبة، وهذا معلم المدينة تتطاير أوراق امتحان طلابه الساقطين أمام نظرات أعينه قبل ان تلتحق روحة الطاهرة بأرواحهم البريئة، وهذه المراة تسقط في باحة الدار وهي ترى موت زوجها المريض ومعه أطفاله الذين يتمسكون بأيديه وكتفه وهم يصارعون الموت المنتج من غاز مستخدم من جحيم أرواح شريرة، وان كان الموت لم ينل من الابنة الكبرى التي عادت من المرعى وهي مندهشة مذهولة بحالة أمها وأبيها وأخوتها وأبناء عمومتها وأهالي مدينتها والتي سببت لها جرحاً كبيرا في الجسد والقلب والروح لا يضمده أي دواء طيلة الحياة وهي تتذكر تلك المأساة اللعينة.

من يصدق أن فواجع بهذه الآلام الأليمة ترتكب بفعل إنسان بهذا التجرد من الانسانية، من يصدق أن حاكما ورئيسا بهذا التجرد من الروح الإنساني يصدر أمرا للإبادة بهذا الحجم الكبير، ومن يصدق في لحظة زمنية قصيرة تموت نفوس بخمسة الاف جسد أسلمت الروح جراء الغازات والكيمياويات التي أطلقها الطيران العراقي بأمر القائد العام المنتصر دوماً على شعبه، وبموافقة وتنفيذ ضباط القوة الجوية الأشاوس للنظام البائد، لحماية حدود العراق وترابه الغالي من أجساد الكرد الطاهرين من الفقراء والمدنيين والأطفال. أجل خمسة الاف ضحية في حلبجة وأكثر من مئة وثمانين الف ضحية في عمليات الأنفال انتشرت في الصحاري والسهول وأمام البيوت ووسط الغرف وقرب برك الماء تشكو لخالقها ظلم الإنسان وجريمة العصر التي أرتكبها الطاغية بحق الآمنين والبسطاء والمدنيين من الكوردستانيين، وعشرات الآلاف من المدنيين المصابين بشتى أنواع المضاعفات في أجهزة أجسادهم جراء الضربات الكيمياوية والجوية القاتلة، لم يزل بعضهم يعاني منها لحد اللحظة. من يقرأ وصف المنظر المأساوي للفواجع الكوردية لا يسعه الا أن يقول في قلبه، يا ربي أدعوك برحمتك وجبروتك أن لا تسمح بتكرار مثل هذه الفاجعة الأليمة التي شهدت مشهدا كمشهد الجحيم المنطلق من السماء و الأرض لأن المشاهد مؤلمة و فضيعة ومخيفة

ومهما يكن من نتيجة، فان أصحاب النفوس الشيطانية التي ارتكبت هذه المذابح، قد دار عليهم الزمن، وساق بهم الرحمن الرحيم الى غرف محاطة بقضبان من أرواح ضحاياهم البريئة، لينالوا جزاءهم جراء أفعالهم الشريرة بحق العراقيين وبحق الشعب الكوردستاني. وها في هذا اليوم تتحقق العدالة الربانية في أوج صورها البديعة، فتبرز يوما بعد يوم الأدلة والبراهين لكشفهم وفضحهم أمام الملأ وبهذا الصدد " يقول رئيس أركان الجيش العراقي السابق نزار الخزرجي في مقابلة لقناة MBC أنهم كانوا حينها مشغولين في التخطيط لمعارك، وأتصل به هاتفياً الفريق كامل ساجت أحد قادة الفيالق ( تم إعدامه من قبل صدام لاحقاً ) يخبره بأن طائرات تعرضت الى مدينة حلبجة وما حولها من المرتفعات وتعرضت مدينة حلبجة العراقية الى ضربة بالأسلحة البايلوجية، فأتصل بدوره بوزير الدفاع عدنان خير الله، ليستعلم من القيادة ويتصل به بعد أكثر من ساعة، وفعلاً يقول الخزرجي أنه بعد ساعة ونصف أتصل به وزير الدفاع يخبره أنه علم من صدام شخصياً بأن الطائرات عراقية والضربة عراقية وبأمر شخصي من صدام"، زهير كاظم، الصباح الجديد 16/3.

ولهذا شاءت الأقدار أن تعيد المشهد مقلوبا على مرتكبيها، فالطاغية قابع في سجنه، والوزير الكيمياوي راكع في خلوته الشيطانية، والمزود الهولندي للمواد الكيماوية مقبوض عليه كمجرم حرب حيث حكمت محكمة في مدينة روتردام الهولندية على رجل أعمال هولندي متهم ببيع مواد كيماوية للنظام العراقي السابق لاستخدامها في إنتاج غازات سامة، وحكم على رجل الأعمال فرانز فان آنرات بالسجن لاتهامات بارتكاب جرائم حرب و إبادة وهي المرة الأولى التي واجه فيها مواطن هولندي هذا النوع من الاتهامات، حي قام المتهم ببيع مواد كيماوية من الولايات المتحدة واليابان إلى العراق لاستخدامها في إنتاج غازي الأعصاب والخردل. ويقال إن هذه الغازات قد استخدمت في هجوم عام 1988 على بلدة حلبجة ومدن كردية أخرى بإشراف الوزير العراقي السابق والمعروف باسم "ْعلي الكيماوي".

هكذا نجد أن حلبجة والمدن الكوردية الشهيدة التي جرت فيها عمليات الأنفال، يوم زلزلت، زلزلت بها الأرض، ويوم دمعت ثارت براكين السماء، يوم غاب عنه الغد، يوم غاب عنه الفجر والشمس، يوم فجع العالم فيه بالهول الرهيب الذي نزل على سماء هذه المدن البريئة، يوم كان العالم عائما في سبات نوم عميق لا روح فيها لإنسان ولا وجود لضمير ولا لقلب فيه، كل ما كان فيه جامد وساكن لا ينطق بالحياة. ولهذا فإن حلبجة و باليسان وشيخ وسان وبادينان ستظل ذاكرة هذه المناطق مؤلمة جريحة في ضمير الانسان العالمي، وستظل علامة بارزة للقربان الكردي من أجل الشعب الكردستاني ومن أجل الامة العراقية، وستبقى يوما خالدا لتذكير الانسان بأن الحياة باقية للنفوس الخيرة على الأرض وفي السماء. وستبقى المدن الكوردستانية العراقية المؤنفلة خاصة منها حلبجة خالدة على الأرض وفي السماء لأن يومها انهمرت السماء بالدموع، وزلزت الأرض بالبكاء، ولم تنهمر عيون الحكام والعرب بمأساة العراقيين وفواجع الكوردستانيين.  

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com