وا أنفالااااااااااااه

فينوس فائق

venusfaiq@gmail.com

كلما أردت الكتابة عن الأنفال إرتفعت درجة كآبتي، هل هناك من يتفهم هذه الحقيقة؟ كلما تذكرت حلبجة، تخيلت نفسي ضائعة ويطاردني أشباه بشر نصفهم وحوش ونصفهم الآخر مومياء، هل تفهمون هذا الكلام؟ لا أدري لماذا علي أن أبكي وأنا أكتب هذه السطور، لن أبالغ وأكتب أنني أكتبها بالدموع، فدموعي لا لون لها، ولأني لا أرى دموعي بغلاوة أ{واح ضحايا وشهداء تلك الجرائم البشعة لأكتب بها هذه السطور، ثم من أكون أنا حتى أكتب لهؤلاء العظام بدموعي، لن أبالغ واقول أنني أجهش بالبكاء حين كتابة هذه السطور، لكنني سأكون صادقة واقول أن دموعي تتساقط بهدوء وكبرياء وألم وحسرة، والألم يعتصر قلبي، والوجع يحفر موطن الراحة في صدري، وتضيق الغرفة وينعدم الهواء وتذهب أنفاسي وأرفع رأسي إلى السماء وأقول ماذا كان ذنبنا لنموت هكذا جماعات جماعات؟ ماذا كان ذنبنا أن نفدن أحياء بين أنقاض قرانا وبقايا بيوتنا المحروقة؟ ماذا كان ذنبنا لنساق كالقطيع ونباع لأيدي قذرة لا تعرف سوى هتك الأعراض وذبح الأسرى وهدم بيوت الأمان..

 عندما كتبتت مقالتي الأخيرة قبل عدة أيام، تحديداً مع بدء محاكمة صدام حسين وأعوانه بتهمة جرائم الأنفال، والتي كانت تحت عنوان "قلبي معكم يا أهالي وذويي ضحايا الأنفال"، حينها كنت عنيت وأعني ما كتبت حرفياً، تصورت أهالي الضحايا وهم يتألمون من جديد مع بدء فصول المسرحية، وكيف سيتألمون أكثر والبعض منهم سيحضر ليدلي بشهادته، كيف سيمشي رحلته حتى بغداد، وصولاً حتى قاعة المحكمة، كيف سيرتب أفكاره وكيف سيسيطر على أعصابه وهو يدخل قاعة المحكمة ويواجه أبشع مجرم على وجه الأرض، آه .. كم هي صعبة تلك اللحظات، هل تقدرون صعوبتها وهولها؟؟ هل فكرتم كيف وقفت الشاهدة الأولى وهي تحكي عن ذويها الذين فقدتهم في تلك العملية البشعة؟ لا أخفيكم أنه يصعب علي متابعة المحاكمة بشكل منتظم بسبب الألم الذي يعتصر قلبي، فكيف بهؤلاء العظام وهم يقفون شامخين أقوياء أمام هذا القذر الطاغية، وكيف يركزون ويجيبون ويحافظون على هدوء أعصابهم أمامه، فلا عجب ولا غرابة لكل هذا فهو يقف أمام مرتكب جميع الجرائم البشعة في التأريخ، سيقف أمام ملامح كائن خطت الجرائم كل تجاعيد وجهه البشع، وكأنه وحش يجلس أمام ضحاياه..

 الردود التي وردتني بعد نشر المقالة الآنفة الذكر أوضحت أمام عيني جانباً لم أكن في هذا الوقت بالذات أفكر به، جانب لشد ما نحتاجه في هذا الوقت الصعب، فلم أكن أفكر في أنه من الممكن أن يكون هناك من يستهزأ من ويلات وآلام الآخرين، لم أفكر أن هناك إنسان على وجه الأرض يمتلك ذرة من المباديء الإنسانية ويمتلك القليل من المشاعر الإنسانية يطعن في صحة وحقيقة تلك الجريمة الكبيرة، لم افكر للحظة أن يكون هناك شخص يقول أن الكورد كانوا يستحقون ما جرى لهم، ربما من يقول ذلك الكلام لم يعش الفجيعة في حياته، ولم يمر أبداً بحالة من حالات الخوف والقهر وعدم الأمان والخوف على الفناء لمجرد هويته، لكنني حين عدت إلى الردود وإكتشفت أن أغلبها من العراق، أصحاب أغلب الردود هم من العرب العراقيين ومن مختلف الإنتماءات خصوصاً الدينية..أن يشكوا ويشككو في تلك الجرائم وينعتونا نحن الكورد بمختلف النعوت..

 الآن عرفت أن الكورد لم يفقد القرى والمدن والضحايا الكثر فقط أثناء حملات الإبادة الجماعية، من أنفال وقصف مدينة حلبجة بالأسلحة الكيمياوية، وإنما فقد إحساسه بالأمان من كل ما يمت بصلة إلى النظام الطاغية، فقد ثقته بالعالم من حوله، بدءاً بالعالم العراقي، وإمتداداً إلى العالم العربي ووصولاً إلى العالم الخارجي الأكبر. عرفت أن النظام البائد لم يزرع الموت فقط في أرض كوردستان ودمر قراها ومدنها، وإنما أسس وبإتقان لثقافة رفض الآخر، زرع بذور أسوء ثقافة في تأريخ البشرية، ألا وهي ثقافة الخراب وتخريب كل ماهو جميل، زرع بذور الفتنة بين أبناء الشعب الواحد لعهود طويلة قادمة بحيث تكفي لتدمير ليس كوردستان والعراق فقط وإنما تكفي لحرق كل بقايا الإنسانية في أرض الحضارات وبلاد الرافدين مالم نكن واعيين لكلك هذه القذارة، وبدلاً من المشي على خطاه، أن نعمل على مسح آثاره...

 قصص الموت لم تحدث فقط أيام عمليات الإبادة الجماعية والدفن الجماعي، فهي لا تزال تحدث حتى هذه اللحظة، تحدث لكن بطريقة أخرى، تحدث عن طريق رفض العالم العربي والعراقي الإعتراف بجريمة الأنفال وإعطائها الشرعية، وإستذكارها، تجري حينما أرى الكثير من الفضائيات ويا لكثرتها، أراها وهي تبث الأغاني والرقص الشرقي، في حين يحاكم صدام حسين في قاعة المحكمة بتهمة الأنفال..

 في الردود التي وردتني يطالبني البعض من القراء الأعزاء أن أذكر الجرائم التي تحدث على مدار الساعة للعراقيين، وأنا معهم وأتفق تماماً، وأنا لم أذكرهم فقط في مقالاتي السابقة تلك الجرائم وإنما بكيتهم بحرقة ومازلت، لسبب بسيط لأنني أعرف معنى أن يكون المء مطارداً من شبح الإرهاب وينام ليلته وهو خائف من الموت المحدق به لأنني عشت تفاصيل الخوف والرعب سنين طوال على يد أبشع نظام، إرتكب أبشع الجرائم، لكن كما تطالبونني بذكر ضحاياكم والإعتراف بتلك الجرائم، أطالبكم بشيء من الضمير الإنساني، أن تزوروا مقابر الشهداء، أطالب الفضائيات العراقية أن تلتقي بأهالي ضحايا الأنفال وأن تعد برامج خاصة بتلك الجرائم، أم أنكم تحتاجون الكورد فقط لإتمام صفقاتكم السياسية ولقضاء بعض ايام الصيف في ربوع ((الشمال الحبيب)) في مصافها الأخاذة؟؟ والبرامج التي تذاع من على تلك الشاشات عن كوردستان هي فقط من أجل العرب السواح الوافدين إليها للإستجمام؟..

 هذا الشيء لفت إنتباهي إلى قضية مهمة جداً وهي أن هذا الآخر الذي كان ومازال يتهم الكورد بالإنفصالي، هو الذي لا يريد العيش معنا، والدليل أنه لا يستطيع أن يلفظ ولا كلمة باللغة الكوردية بالشكل الصحيح ولا حتى أسماء المناطق الكوردية، في حين مطلوب من الكوردي إتقان اللغة العربية على أفضل وجه، وإلا من يريد الإلتحام مرة أخرى بين الشعبين الكوردي والعربي العراقي، يجب أن يلتحم بكل ما تحمل الكلمة من معاني، يجب أن يفرح لفرحه، وأن يحزن لحزنه، يجب أن يلتحم معه حتى في آلامه وأوجاعه.. الكوردي مطلوب منه أن يتعاطف مع كل القضايا العراقية وأن ينسجم مع كل السياسة العراقية وأن يتفهم كل شيء يخص العراق، في حين أن العربي العراقي يعطي ظهره لهذه الفاجعة الكبيرة التي هي الأنفال كما فعلها أيام حدوثها..

أم التوحد مرة أخرى داخل الوطن (العراقي الواحد) وإلحاق كوردستان بها مرة أخرى هي فقط صفقة سياسية ليس إلا، نرضي بها الغرب وأمريكا، ألا يعني التوحد هذا توحدنا في الآلام والمصائب والمحن وإستذكار هذه المحن؟

فحتى هؤلاء المحامون الذين يتولون الدفاع عن صدام حسين، لا أظن أن عددهم هو فقط من هم موجودون في قاعة المحكمة، وإنما يوجد منهم الكثيرون في الشوارع والطرقات وبين الأزقة والأحياء وحتى بين المثقفين والسياسيين وصولاَ إلى أهل الحكم..

هذا كله ذكرني بدنيس هاليداي منسق برنامج الغذاء مقابل النفط أيام الطاغية، الذي قال في ندوة له في إحدى قاعات البرلمان الهولندي أثناء زيارة له إلى هولندا عام 2000: أن النظام العراقي ضرب الكورد بالأسلحة الكيمياوية لأنهم كانوا معارضين، فهو أعترف رغم كل شيء بإرتكاب النظام العراقي جريمة قصف حلبجة بالأسلحة الكيمياوية، وفي الوقت نفسه أعطى الشرعية لأبشع جريمة في التأ{يخ البشري وقتل الأبرياء، لا لشيء وإنما لكونهم أكراد، هل تعرفون لماذا لأنه كان مدفوع من قبل النظام العفلقي آنئذ لكي يقوم بجولة في العالم من أجل إفناع المجتمع الدولي بإعادة تأهيل النظام العراقي داخل المجتمع الدولي وإخراجه من عزلته، ولأنه كان يتلقى لقاء ذلك مبالغ ضخمة تؤمن له العيش مدى الحياة..

هذه هي المصيبة الأعظم، المصيبة الأولى هي جريمة الإبادة بكل أنواعها، والمصيبة الأعظم إعطاء الشرعية لتنفيذ الجريمة..

هكذا فقد أصبح تجاهل الجريمة ونكرانها وعدم الإعتراف بها من قبل الكثير من العراقيين من جهة وإعطائها الشرعية وتبرير حدوثها من جهة أخرى باتت نوع من الثقافة التي توارثها الكثير بدون قصد، وحتى أنهم قبلوا بهذه الثقافة، مما نتج عنها ثقافة هي ثقافة إلغاء الآخر والأدهى هو أنه مطلوب من الكوردي أن يبدي ولاءه وإنتماءه..

الكوردي من جانبه لم يقصر في خدمة العراق، أبسط مثال على ذلك أن كوردي يحكم العراق، ومن أجل ذلك ضحى بحلمه في قيام الدولة المستقلة..

فعدى عن أن الجرائم نفسها تركت آثارها السلبية من نفسية وإجتماعية ومن كل النواحي على المجتمع الكوردي، فإن هذا التجاهل المتعمد من قبل الأوساط العربية العراقية والعربية في الوطن العربي بشكل عام يترك آثاره هو الآخر بشكل عميق حتى على نوع العلاقة بين الكورد والعرب بشكل عام وشكل التعايش بينهما مستقبلاً..

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com