الصابئة المندائيون .. ومسؤولية الدولة!!

 

هادي فريد التكريتي / عضو اتحاد الكتاب العراقيين في السويد

hadifarid@maktoob.com

بلاد الرافدين، وعلى مدى آلاف السنين، عاشت على أرضه ديانات مختلفة ومتعددة، ومن أقدم هذه الديانات، الصابئة المندائية، التي بقيت محافظة على تقاليدها وتراثها الديني الموروث، حيث احتفظت هذه الطائفة المسالمة، ليست بعلاقات سليمة وسلمية فقط مع كافة الأقوام والشعوب، التي شاركتها العيش، وإنما كانت تحضى بالإهتمام والرعاية من قبل تلك المجتمعات، بغض النظر عن شكل أنظمة الحكم، وعقيدة الحكام الذين توارثوا حكم العراق، لما امتازت وتميزت به هذه الطائفة والقائمين على شؤونها الدينية، من ذكاء وحكمة، وأفرادها من دأب ومثابرة، وتوظيف معرفتهم وخبرتهم العلمية والعملية، في مختلف مجالات الحياة، لخدمة هذه الشعوب، مما أكسبهم تعاطف وحب ومودة أغلب الأقوام التي عاشوا معها، وفي ظل أنظمتها المختلفة، على مر السنين، وهذا ما جعلهم في منأى عن الاضطهاد الديني أو الطائفي، بسبب معتقداتهم الدينية، أو نتيجة لرفض الخضوع لديانات أنظمة الحكم السائدة، أو لعدم الدخول في الديانات الجديدة، وحتى إن حصل اضطهاد نتيجة لغزو أجنبي للعراق، فكان ما يصيب هذه الطائفة، الصابئة المندائية، هو ما يصيب كل الطوائف والأقوام التي يقع عليها الحيف والظلم.

والمسلمون، الأوائل، قد احترموا ما نص عليه القرآن، بشأن المعاملة الواجب احترامها، وفق نص الآية، التي جعلت من أتباع الديانة الصابئة المندائيين، أهل كتاب، أسوة بأهل الكتب السماوية، من اليهود والنصارى، وفق منطوق الآية 62 من سورة البقرة، \" إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون \" ولأهمية هذا الحكم وخطورة مخالفة العمل بهذه الآية، سواء أكان بالتنكر لمعتقدات أصحاب هذه الديانات، في المجتمع، أو بالتعدي على حقوقهم، أوبالتضييق على حرية طقوس عباداتهم، ولتأكيد هذا الأمر على كل المسلمين في كل مجتمعاتهم وأينما كانوا، وخاصة على ولاة الأمر منهم، القائمين على تنفيذ الحكم الشرعي، ألزمهم القرآن جميعا، بالتقيد بمنطوق الآية وعدم مخالفتها، شكلا ومضمونا، من خلال تكرار هذه الآية في مكان آخر، وبالنص عليها حرفيا، كما جاء في الآية 69 من سورة المائدة، بل ذهب الحكم القرآني في التسامح مع المخالفين في المعتقد والعقيدة، أبعد من هذا بالنص على عدم التعرض إليهم أو مساءلتهم، ليس فقط لأصحاب الكتاب المار ذكرهم، بما فيهم المسلمون المؤمنون، بل وحتى المجوس، والذين أشركوا في الله، فالله وحده من له الفصل والحكم على ما في دواخل الناس وما يعتقدون، فالآية 17 من سورة الحج، لا لبس فيها من عدم شرعية التعرض، من أي كان، لمعتقدات الناس وما يضمرون، في ضمائرهم وسرائر نفوسهم، فالإيمان وعدمه هو شأن شخصي، قائم بين العابد والمعبود، ولا مجال فيه للتدخل، أو الاجتهاد من حاكم أو تأويل من فقيه أو مفسر \" إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد \". فما تمارسه قوى الإسلام السياسي والطائفي في الوقت الحاضر، من تهديد بالقتل، وبالقتل، والتهجير، والتشريد في داخل العراق وخارجه، لطائفة الصابئة المندائيين، وغيرهم من الطوائف الدينية الأخرى، بكل تسمياتها ومسمياتها، يتعارض مع أحكام القرآن التي تحرم قتل الإنسان دون ذنب أو جريمة مرتكبة، كما ورد في سورة المائدة الآية 32 \"... من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا..\" فكيف الحال والجريمة ترتكب من قبل أناس جهلة وصبيان، يتلفعون بالدين، لستر جرائمهم وعدم كشفها، ينفذونها في ظل دولة ودستور، والضحايا فئة من الشعب، مسالمة من طائفة ودودة ومسالمة، انغرست جذورها في عمق التاريخ والوجدان العراقي، بل هي خير من يحكي وقائع التاريخ , وما تعرض له هذا الوطن على مختلف عصوره، حيث ساهم أبناؤها في نسج رخائه وازدهاره، كما شاركوا في صنع أفراحه في انتصاراته، وحملوا هموم أحزانه في انكساراته، وتقاسم أتباعها ضيم وقهر الحكام، أسوة بما احتمله الشعب العراقي، على امتداد سنوات نضاله ضد سلطات الظلم والاستبداد، نتيجة لوعي سياسي متجذر في انتماء أبناء الصابئة الوطني.

نسيج الحركة الوطنية العراقية، منذ بداياتها ساهم فيه الكثير من المناضلين، الصابئة المندائيين، وكثيرون من طوائف عراقية أخرى، إلا أن ما نتحدث عنهم، هنا، هم من ابناء هذه الطائفة، المعطاءة بسخاء للوطن، حيث قدمت الكثير من الشهداء، الذين انخرطوا في العمل السياسي والوطني، منذ بواكير الحكم الوطني، وقاست هذه الطائفة، من أجل وطن حر وشعب سعيد، فطرزت دماؤهم لوحة شهداء هذا الوطن، على مختلف مراحل النضال ضد الاستعمار، والحكام الخونة، إلا أن النظام الفاشي، بمرحلتيه الأولى والثانية، كانت له الحصة الأوفى من الشهداء المندائيين، رجالا ونساء، لمقاومتهم وبسالتهم في التصدي لهذا النظام، حيث روت دماؤهم الزكية أرض وسجون العراق، كما ضمخت دماؤهم ربى كوردستان، ومن حيث اختلطت الدماء وتمازجت، مع دماء كل الوطنيين العراقيين، من كل القوميات والطوائف، توفرت إمكانية سقوط الفاشية، ليبدأ عصر جديد، ونظام حكم يعتمد الحرية والديمقراطية في الكثير من بنود دستوره، ويقر حكما لا يتعارض مع توجهات الدين الإسلامي، وبدلا من أن ُتًكًرم هذه الطائفة الوطنية، وباقي الطوائف، من قبل الدولة ومؤسساتها الرسمية، يقع عليها خيار القوى المعادية والحاقدة على الشعب، وعلى قواه الوطنية والديموقراطية، من أتباع ومؤيدي الإسلام السياسي، \" لا يفهم كوعه من بوعه \"، حاقد على الشعب والوطن، متشدد ومتشنج ومتخلف ـ طائفي بشقيه، الشيعي والسني، وقوى اخرى قومية ـ عنصرية، وبقايا فاشية بعثية، للقيام بحملة تصفية ضدهم، تتسم بالتهديد والقتل، ونهب وحرق بيوتهم ومحلات عملهم، مرغمينهم على مغادرة العراق، حيث التشرد في دول الجوار، دون قدرة لهذه الطائفة، على العمل أو العيش، طالبين السلامة في اللجوء إلى دول أجنبية، كل هذا يتم تحت علم وسمع الدولة ومؤسساتها الحكومية والرسمية، حيث الجناة المسؤولون عن هذه الجرائم ينعمون بحماية القانون والسلطة، ويشغلون مقاعدهم لتمثيل الشعب في المجلس النيابي !! وميليشياتهم تصول وتجول في ساحة الإرهاب، ولها الحرية المطلقة في قتل وتشريد الكثير من أبناء هذه الطائفة وطوائف أخرى غيرها، لا لسبب يبرر جريمتهم هذه، غير حقدهم على وطنيتهم، وانحيازهم للمعسكر الوطني والديموقراطي، ووقوفهم بوجه القائمين على تقسيم العراق، وافتعال حرب طائفية.

الدولة بكل مؤسساتها تتحمل مسؤولية هذه الجريمة، بصمتها وانحيازها الكامل للقتلة، دون اتخاذ أية إجراءات حقيقية ورادعة لحماية أرواح منتسبي الطائفة المندائية، ومنتسبي بقية الطوائف الأخرى، التي تتعرض بالمثل للتطهير العرقي، من قبل متطرفي الدين والقومية، كما تتحمل مسؤولية الإبادة الحاصلة منظمات المجتمع المدني، ومنظمات حقوق الإنسان، فعليها أن ترفع أصوات الشجب والإدانة لهذه الجرائم، التي هي جرائم لإبادة الجنس البشري في العراق، تستحق قرارا من هيئة الأمم المتحدة، ومنظماتها الإنسانية والدولية، لشجبها وإدانتها، وإيجاد حل عاجل لوقف المأساة التي تتعرض لها الطائفة المندائية..!

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com