مواجهة البكائية الامريكية
د. علي محمد فخرو
بعد بضعة أيام سيعود العالم كله للإستماع مجدداً للبكائية الامريكية بمناسبة ذكري اعتداءات الحادي عشر من ايلول (سبتمبر). ستتحًرك الماكنة الإعلامية الامريكية الهائلة لتخلط أوراق الحقائق مع أوراق الاتهامات والأوهام، لتبرٍر احتياجات بربرية وسفك دماء بريئة، لتدعي انتصارات يدحضها الواقع كل يوم، ولتستعمل المناسبة لدعم طموحات الأصولية اليمينية الامريكية للبقاء في السلطة واستراتيجياتها العولمية للسيطرة علي العالم ونهب ثرواته. فإذا كانت الصهيونية العالمية قد نجحت في تجديد شباب بكائية الهولوكوست عبر أكثر من ستين عاماً، فأحري باليمين الامريكي الجديد أن يفعل ذلك وأكثر، وعلي العرب والمسلمين أن ينتظروا قلبهم إلي صنم يرجمه الامريكيون وحلفاؤهم كل ايلول (سبتمبر) لسنين طويلة قادمة باسم الدين الجديد: دين محاربة الإرهاب.
تلك مقدمة لتوضيح طبيعة وثقل العبء الجديد الذي ستحمله هذه الأمة اضافة إلي أعبائها التاريخية والمصيرية الأخري التي تنوء بحملها وهي في حالة إعيائها الحالي. وفي هذه المرة ستضاف إلي إشكالياتنا السياسية والاقتصادية، والتي هي نتيجة تراكمات عبر العصور، إشكالية ثقافية ـ ايديولوجية بالغة التعقيد والقابلية للاستمرار والتجدد عبر المستقبل البعيد. هل هناك فكاك من البقاء في هذه الحلقة الجهنمية التي أدخلت أحداث ايلول (سبتمبر) العرب في دوامتها؟ الجواب المعقول والممكن هو في الجانبين التاليين:
فأولاً: هناك تداعيات ردود الفعل التي أعقبت أحداث ايلول (سبتمبر) المأساوية. فالتقييم الموضوعي المتداول الآن يشير إلي فضائح وأخطاء وتغطيات إعلامية وصفقات مالية، ارتكبت باسم محاربة الإرهاب، فاقت في بشاعاتها الإرهاب نفسه. فابتداء بالشبهات والأسئلة المسكوت عنها والتي أحاطت بأحداث ايلول (سبتمبر) نفسها. مروراً بفضائح أكاذيب المبررات المفتعلة لاجتياح العراق ولفضائح سجون أبوغريب وغوانتانامو وبالارتباطات الوثيقة بين كبار المسؤولين في بعض الحكومات الغربية وشركات ماسمي بإعادة إعمار العراق أو أفغانستان وانتهاء بعشرات الكتب والدراسات التي بينت أن أهم هدف لكل ماجري هو الاستيلاء علي والتحكم في بترول العرب والمسلمين بدأت تتبيًن للرأي العام الغربي علي الأخص مدي هامشية موضوع مقاومة الإرهاب العالمي ومدي هيمنة أهداف خفيًة أنانية اقتصادية وعسكرية وجيو ـ سياسية للولايات المتحدة وانكلترا علي الأخص.
لقد استطاعت مجموعات صغيرة من الإعلاميين والكتاب الغربيين الإصرار علي زرع الشك في أذهان مجموعات متزايدة من مواطنيهم في مدي صدقية ونزاهة بعض مسؤولي حكوماتهم، وبذر التساؤل حول ضحالة التعميمات التي طالت العرب والمسلمين ودين الإسلام. وعندما يتحدث هؤلاء عن أي فرد امريكي واحدٍ لم يمت بسبب الإرهاب في بلاده خلال الخمس سنوات الماضية في حين مات أكثر من سبعين ألف من المدنيين الأبرياء العرب والمسلمين في العراق وأفغانستان وفلسطين ولبنان وغيرهم بسبب الظلم الإرهابي الحربي الجائر من قبل القوي الانكلو ـ الامريكية ـ الصهيونية فانهم يفتحون عيوناً كانت قد أعمتها آلة الإعلام المنحازة لتلك القوي. السنوات القادمة ستشهد المزيد من تعرية الأكاذيب والأهداف الخفية وستقلل حتماً من حملات الكراهية ضدنا.
وثانيا: يمر الاحتفاء بذكري الأحداث التاريخية، التي تصبح مع الوقت إيديولوجيات وهلوسات، في مرحلتين، معتمداً علي وضع الأمة الموجه هذا الحدث ضدها فالأمة الضعيفة ستواجه حملات دعائية تستهدف ثقافتها ووجودها كما هو الحال بالنسبة للأمة العربية وهي في ضعفها الحالي. بينما ينقلب الاحتفاء إلي تذكر فولكلوري لايضر ولايؤذي الأمة الموجه إليها إن أصبحت هذه الأمة منيعة عزيزة وقوية. وهنا ترتسم ملامح التعامل المستقبلي مع حلقة أحداث 11 ايلول (سبتمبر) الجهنمية: أن تبني الأمة العربية نفسها وتقوي وتخرج من هذا الحطام التاريخي الذي تعيشه، وهذا موضوع طويل مكرر معروف.
من داخل مجتمعات الدول والقوي التي تسعي لجعل ذكريات أحداث ايلول (سبتمبر) ضريبة سنوية يدفعها العرب والمسلمون في سمعتهم وصورتهم الأخلاقية ودينهم تخرج قوي شريفة لتقاوم ذلك وتتكفًل بالجانب الأول، فهل سنستطيع نحن أن نفعل شيئاً تجاه الجانب الثاني؟ هذا سؤال نحتاج أن نواجهه في شهر ايلول (سبتمبر) من كل سنة.