|
آسيا .. ما بين عقلانية وسطها وراديكالية أطرافها
د. عبدالله المدني / باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية في ذكرى مرور 15 عاما على إغلاق ميدان " سيميبالاتينسك" في كازاخستان والذي استخدمه الاتحاد السوفياتي لإجراء نحو 500 تفجير نووي على مدى خمسة عقود، أقدمت كل من كازاخستان وأوزبكستان وطاجيكستان وتركمانستان وقيرقيزيا في الثامن من سبتمبر الجاري على خطوة تاريخية هامة بتوقيعها على معاهدة إعلان آسيا الوسطى منطقة خالية من الأسلحة النووية. وبهذا تكون الدول الخمس قد التزمت طواعية بمنع إنتاج واستخدام واقتناء ونشر السلاح النووي ومكوناته وتكنولوجياته وتوابعه، بما في ذلك الامتناع عن القيام بالتفجيرات النووية. وبهذا أيضا تنضم آسيا الوسطى إلى أكثر من مائة دولة في أربع مناطق أخرى في العالم (أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي، أفريقيا، جنوب شرق آسيا، ومنطقة جنوب الباسيفيكي) سبق لها أن أعلنت كمناطق خالية من الأسلحة النووية منذ ظهور الفكرة في عام 1965 . وهذا بطبيعة الحال سوف يساعد جمهوريات آسيا الوسطى، التي تضررت بيئيا على مدى نصف قرن من جراء التفجيرات النووية يوم كانت تابعة للاتحاد السوفياتي، على التفرغ للتنمية والسلام والاستقرار بدلا من توجيه مواردها وإمكانياتها إلى سباق التسلح وعرض العضلات وعمليات ابتزاز الآخر ومشاغبته بالإمكانيات النووية. وبعبارة أخرى فان هذه الدول تقدم اليوم نموذجا في الحكمة والتعقل والمسئولية والرغبة في التعايش السلمي مع دول الجوار، وهو ما يتناقض مع النموذج الآخر الذي تجسده دولتان على الطرفين الجنوبي والشمالي من القارة الآسيوية هما إيران وكوريا الشمالية. هذا على الرغم من أن جمهوريات آسيا الوسطى محاطة بأربع قوى نووية هي روسيا والصين وباكستان والهند، ناهيك عن امتلاكها لقاعدة من المعارف والخبرات النووية الموروثة من زمن الاتحاد السوفياتي السابق والتي يمكن البناء عليها لدخول النادي النووي بسهولة، خاصة وأن كازاخستان مثلا هي ثالث اكبر منتج لليورانيوم في العالم وثاني اكبر دولة لجهة الاحتياطيات من هذه المادة المستخدمة في الطاقة النووية. وقبل الدخول في تفاصيل المراحل التي قطعتها هذه المعاهدة، منذ أن لاحت كفكرة طرحها الرئيس الاوزبكي إسلام كريموف في عام 1993 أمام الدورة 48 للجمعية العامة للأمم المتحدة، لا بد من الإشارة ابتداء إلى أن سنوات طويلة ضاعت في إعداد مسودة المعاهدة، وأخرى ضاعت في تعديل وتنقيح بنودها. ولم يكن السبب في هذا التأخير عائدا إلى اختلاف الدول المعنية الخمس فيما بينها بقدر ما كان عائدا إلى غموض مواقف الدول النووية الكبرى من المعاهدة المقترحة، ولاسيما في ظل التجاذبات الإقليمية والدولية في سنوات ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وأنماط العلاقات الجديدة ما بين الأخير وجمهورياته السابقة في آسيا. فالروس الذين لم ينظروا إلى المبادرة بجدية وقت طرحها، سرعان ما استشعروا أهميتها، ولاسيما في أعقاب التدخل العسكري لقوات الناتو في كوسوفو،الذي جعلهم يعيدون الاعتبار لدور السلاح النووي في حماية أمنهم الوطني. فحاولوا التدخل كيلا تأتي بنود المشروع المقترح بقيود تحد من مرونة نقل هذا السلاح عبر أراضي جمهوريات آسيا الوسطى في أوقات الأزمات، الأمر الذي تسبب في تباين وجهات نظر الأخيرة. وبمجيء عام 2002 كانت هذه التباينات قد ذابت تدريجيا كنتيجة لبروز مستجدات كثيرة على الساحتين الإقليمية والدولية من تلك التي لعبت فيها أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 دورا. حيث أدت تلك الأحداث وما أعقبها من الحرب الدولية على الإرهاب إلى تزايد الدور الأمريكي في آسيا الوسطى، سواء عبر نشر القوات والحصول على قواعد عسكرية في أوزبكستان وقرقيزيا، وبما جعل دول المنطقة اقل اعتمادا على الروس وخضوعا لهم. كما وأن تزايد أنشطة الحركات الإرهابية الأصولية في المنطقة وانضمام الروس أنفسهم إلى الحرب ضد الإرهاب الذي نالهم نصيب منه في الشيشان وغيرها، ساهم في الاتفاق على ضرورة الخروج بمعاهدة تتضمن قيودا وآليات محكمة لمنع الانتشار النووي في آسيا الوسطى والحد من احتمالات وقوع السلاح النووي في أيدي الجماعات الإرهابية. على أن تفاصيل المعاهدة المقترحة ظلت محورا لمحادثات شاقة بين الدول الخمس المعنية في الفترة ما بين عامي 2002 و2005 ، وذلك بأمل الخروج بصيغة ترضى عنها جميع الدول النووية الكبرى كيلا يتكرر ما حدث من قبل حينما رفضت الدول النووية الغربية التصديق على البروتوكول الخاص بإعلان جنوب شرق آسيا منطقة خالية من الأسلحة النووية بحجة أن بعض بنود المعاهدة متناقضة مع مبدأ حرية استخدام أعالي البحار. والجدير بالذكر أن موافقة الدول النووية الرئيسية على مثل هذه البروتوكولات ضروري لأنه من خلالها تلتزم هذه القوى بعدم مهاجمة الدول أصحاب المشروع وتهديدها نوويا. وكنتيجة لمحاولة إرضاء كل الأطراف النووية الكبرى حفلت المعاهدة في صيغتها النهائية ببعض الغموض الذي دفع كلا من واشنطون ولندن وباريس إلى إبداء تحفظاتها، وبالتالي عدم حضور مراسم التوقيع، في الوقت الذي دعم فيه الروس والصينيون المعاهدة ووقعوا على بروتوكولها، إضافة إلى الأمم المتحدة والوكالة الدولية للطاقة النووية. ومما تحفظت عليه العواصم الغربية الثلاث بقوة بحجة وجود تناقض فيه، المادة 12 التي تتحدث عن الاتفاقيات الدولية السابقة للمعاهدة. وهي مادة تتضمن فقرتين: الأولى تقول بأن المعاهدة لن تتعارض مع حقوق وواجبات وتعهدات الأطراف الموقعة المقررة في معاهدات دولية سابقة، لكن دون تسمية تلك المعاهدات، وهو ما فسر بأنه إشارة ضمنية إلى معاهدة طشقند للأمن الجماعي الذي يلعب فيه الروس دورا هاما وبالتالي يستطيعون من خلاله استخدام أراضي جمهوريات آسيا الوسطى لنشر سلاحهم النووي. أما الفقرة الثانية فتتحدث عن التزام الدول الموقعة بعدم القيام بأي عمل من شأنه الإخلال بأهداف المعاهدة بما في ذلك إعادة نشر الأسلحة النووية في المنطقة. وإذا كانت الدول الخمس الموقعة قد استجابت في العام الماضي لتحفظات واشنطون حيال مادة وردت في مسودة المعاهدة تقول بإمكانية توسعة منطقة آسيا الوسطى الخالية من الأسلحة النووية لتشمل دولا أخرى، واستبدلتها بمادة جديدة ترسم حدود المنطقة بدقة، فان ما ظل على حاله دون تغيير هو مادة أخرى رأى فيها الأمريكيون وحلفائهم تناقضا أيضا وطالبوا بتعديلها كي تبدو أكثر وضوحا. ولم تكن هذه سوى مادة تقول من جهة بحق كل طرف من أطراف المعاهدة قبول ورفض مرور الأسلحة النووية عبر أراضيها، ومن جهة أخرى تقول بمنع الدول الموقعة من المساعدة والتشجيع على امتلاك مثل هذه الأسلحة. والحقيقة أن المعاهدة المذكورة، كغيرها من المعاهدات الدولية، بها بعض النواقص، إلا أن هذا ليس سببا وجيها للتقليل من قيمتها وانتقادها، بل يجب دعمها والتفاهم حول وضع مذكرات تفسيرية لبعض موادها الغامضة، ومن ثم استخدامها لحث مجموعات إقليمية أخرى على الإقتداء بأصحابها، لا سيما في هذا المنعطف الذي تتزايد فيه شهية بعض الأنظمة الراديكالية المتوترة على دخول النادي النووي بأي ثمن، وإن كان الثمن استنزاف ثروات البلاد وفرض العزلة عليها وإدخالها في مواجهات غير محمودة العواقب.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |