من ينقذ العراق من زعماء المحاصصة؟

جودت هوشيار

jawhoshyar@yahoo.com

تكتسب مسألة الزعامة السياسية أهمية بالغة في حياة الشعوب وبخاصة في مرحلة التحول من النظام الشمولي إلى النظام الديمقراطي، والعراق الذى انهكت قواه دكتاتورية صدام الهوجاء وحروبه العبثية وما اعقب سقوط نظامه الدموى من فراغ سياسى وامنى وانحطاط وخراب فى كافة مفاصل الحياة الأساسية ، هذا العراق الغارق فى المشاكل والأزمات أحوج ما يكون اليوم إلى زعامة سياسية على مستوى التحديات الخارجية والداخلية وذات أهداف وطنية وبرامج سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية قادرة على إنقاذ البلاد من الفوضى وإخراج الشعب العراقي من محنته الخانقة وبناء دولة القانون والمؤسسات واستعادة الهوية الوطنية ، لأن افتقار العراق إلى مثل هذه الزعامة، هو من أهم أسباب استمرار أزمته الشاملة. ، فما هي الزعامة السياسية الأصيلة ومن هو الزعيم السياسي الحقيقى؟
مسألة الزعامة السياسية لا تظهر إلا مع ولادة الديمقراطية، والتعددية السياسية والحزبية والتنافس الحزبي، سواء بين الأحزاب المختلفة التي تمثل اتجاهات ومصالح فئات وشرائح مختلفة من الشعب وبين الأجنحة المتباينة في الحزب الواحد ، حيث لاتوجد في ظل النظام الدكتاتوري والحكم الفردي المطلق أي إمكانية لظهور زعامات حقيقية جديدة بوسائل ديمقراطية ولا اى تنافس حقيقي بين الزعماء السياسيين من ذوى الاتجاهات والتيارات المتباينة ، ولا معارضة حقيقية تؤثر في عملية اتخاذ القرار، ويقتصر التنافس السياسي على المناصب والمكاسب بين أعوان الدكتاتور والحاكم المطلق ، انطلاقا من طموحات شخصية لا علاقة لها بالشعب وهموم الجماهير العريضة.
تتصف الزعامة السياسية الحقة والأصيلة بسمات وخصائص محددة، لعل أهمها الموهبة الفطرية للزعامة والقيادة وكما تقول الحكمة الصينية ( إن الذي لم يولد بالموهبة الفطرية للقيادة لا ينبغي له أن يقود ) ،إضافة إلى قوة التأثير والريادية والقدرة على التوجيه.
ويعتقد ماكس فيبر وآخرون من مدرسته، إن ثمة ثلاثة أنماط من الزعماء السياسيين .
النمط الأول: الزعماء التقليديون والذين يأتون إلى الحكم عن طريق الوراثة، كما هي الحال في البلدان ذات الأنظمة الملكية، وكذلك الحال في ظل الجمهوريات التي تحكمها أنظمة شمولية، والأمثلة على ذلك كثيرة وبخاصة في العالم العربي وجمهوريات آسيا الوسطى .
النمط الثاني:الزعماء الشرعيون والذين يصعدون الى سدة الحكم عن طريق الانتخابات الحرة النزيهة وتداول السلطة على نحو سلمى سلس في ظل الديمقراطية، كما هى الحال فى دول اوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية واليابان وغيرها من الأنظمة الديمقراطية .
أما النمط الثالث: فهم الزعماء الكاريزميون اى الذين لا يستند نفوذهم إلى قوة خارجية ، بل إلى صفات شخصية مثل قوة التأثير وسحر الجاذبية الذاتية، ومصطلح ( كاريزما ) تعنى في أدبيات المسيحية المبكرة ( الملهم ) ومن يعمل بوحي الهي ،ومثل هذه الشخصية، بما تمتلكه من مواهب وصفات، يمكنها أن تكون قاسما مشتركا ووأداة تماسك وطني بين الأحزاب والكتل السياسية المتنافسة على السلطة .
ويمتاز الزعيم الكاريزمي عن الناس العاديين بأن له رؤية شخصية للواقع المعاش وله أهداف محددة وقدرة على اجتذاب الناس إليه وقيادتهم وتحديد مواقفه بوضوح ودقة إزاء القضايا والتحديات التي تواجهه، وهو بذلك لا يعبر عن آمال وتطلعات أنصاره ومؤيديه وينطق ويتصرف باسمهم فقط ،و إنما يبلور ويطور ويوجه آمال وتطلعات شتى فئات وشرائح المجتمع، بما يخدم المصالح الوطنية العليا وبصرف النظر عن هذا التقسيم الكلاسيكي، فأن من يتصدى للعمل السياسي ويتطلع للزعامة السياسية ، لا بد له أن يتصف بصفات شخصية وقيادية، تميزه عن الناس العاديين . وتكاد آراء المعنيين بهذا الموضوع من علماء السياسة والأجتماع تتفق على ان فى مقدمة هذه الصفات امتلاك الزعيم لثقافة سياسية تتيح له دراسة وتحليل الواقع المعاش واحتياجات المجتمع ومشاكله واتجاهات الرأي العام، لا أن يطل علي هذا الواقع من برجه العاجي لأن الظروف المحيطة به تؤثر في تكوين شخصيته وتضع أمامه دائما مشاكل وتحديات مستجدة،ويحدد إلى حد كبير الخيارات المتاحة أمامه والمساحة التي يتحرك ضمنها.
ومن المفارقات اللافتة للنظر أن بعض المفكرين والفلاسفة ، يزعمون أن ( الجماهير الواسعة ) تلعب الدور الحاسم في الحياة السياسية ، اى أن دور الزعيم السياسي هو دور ثانوي وينبغي له أن يعبر عن مصالح الجماهير العريضة، بيد أن هذه المقولة بحاجة إلى اعادة نظر في ضؤ تجارب الشعوب ، ذلك لأن الأنظمة الشمولية في كل مكان من عا لمنا وبخاصة الأنظمة العربية القمعية، شوهت هذا المفهوم إلى حد كبير، حيث تزعم دائما أنها تعبر عن مصالح أوسع الجماهير وتدافع عنها وتسعى إلى تحقيق المزيد من المكاسب لها، في وقت تستأثر فيه ( النخب السياسية الحاكمة ) بالسلطة والنفوذ والقوة والمال والامتيازات، وتعيش في بذخ ، غير مكترثة بالواقع المزري لأوسع جماهير الشغيلة .
حقا أن الزعيم السياسي ينبغي له أن يشخص ويحدد ويصوغ في نشاطه العملي وخطابه السياسي الأهداف الأساسية لأوسع الجماهير ويعبر عنها بوضوح ودقة. بيد أن ذلك غير كاف لجعله زعيما سياسيا فهو في هذه الحالة يتبع الجماهير ولا يقودها كما أن دور الزعيم السياسي لا يقتصر على تقصى مصالح الجماهير وإبرازها، ولكن تحليلها وإدراك مغزاها ومعانيها وتعديلها وتطويرها وهذا ما يمكن إن نصفه بالريادية.
ولا يستحق الزعيم السياسي هذه الصفة إذا لم يكن له برنامج عمل يلبى حاجة المجتمع في مرحلة معينة. ولو رجعنا إلى تأريخ الشعوب لرأينا أن جميع الزعماء السياسيين العظام كانت لهم برامج سياسية ذات أهداف واقعية محددة وتتسم بالجرأة والجدة والفكر الخلاق في آن واحد. يمكن أن تلتف حولها شرائح المجتمع المختلفة، ومبنية على أسس مدروسة ،يمكن تطبيقها وفق آليات واضحة ومحددة مع بيان مميزات هذه البرامج من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وما هي الفوائد التي بجنيها المواطن العادي والناخب وعائلته والمجتمع بأسره في حالة تطبيقها.
وتبقى سمة في غاية الأهمية ، ينبغي لمن يتصدى للعب دور الزعيم السياسي أن يتحلى بها وهى الإحساس ما يمكن أن نسميه ( الزمن السياسي ) وبتعبير آخر : أن تكون سياسيا يعنى أن تتخذ الإجراءات في أوقاتها المطلوبة دون تقديم وتأخير ، وإذا كان التنازل المبكر يفقد السياسي الهيبة ، فأن التنازل المتأخر يفقده المبادرة وربا يؤدى إلى الفشل والهزيمة كما أن عدم الإحساس بالتغيرات السياسية الجارية في وقتها والتكيف معها يؤدى إلى نفس النتائج .
ولا يمكن لسياسي أن يشق طريقه إلى النجاح دون امتلاك خطاب سياسي واضح ومفهوم من قبل الجمهور،قادر على إيصال الأفكار والمعاني دون لف ودوران ودون حشر المصطلحات السياسية التي ، ربما لم بتعمق السياسي نفسه في إدراك معانيها الحقيقية، ذلك لأن السياسي ينبغي له أن يعبر ببلاغة وفصاحة عما يجول في ذهنه ويتجاوب ويتفاعل مع تطلعات الجمهور..
ومع ضرورة وجود زعماء سياسيين أكفاء من ذوى الشخصيات القوية المؤثرة، لا ينبغي للنظام الديمقراطي أن يتوقف على الصفات الشخصية لهذا الزعيم وذاك، لأن معنى ذلك ،ببساطة هو التحول إلى النظام الدكتاتوري ان عاجلا أم آجلا ، لذا  كان من المستغرب حقا أن نرى خلال الأنتخابات الأخيرة فى العراق ، رئيس حزب سياسى - يزعم أنه علماني وديمقراطي - يروج في دعايته الانتخابية بأنه الزعيم  القوى ورجل المستقبل ( وبعبارة أخرى الدكتاتور القادم ) كما أن زعيم حزب  سياسي آخر ، ر فع شعار ( الزعيم القوى الأمين ) ولكن الواقع يثبت العكس تماما حيث عجز خلال توليه رئاسة الوزارة عن معالجة اى أزمة من الأزمات الخطيرة التى تعصف بالمجتمع العراقى واخذت الأمور فى عهده تسير من سىء الى اسوأ ، فى كافة المجالات. ولم يكن لدى اى منهما برنامج انتخابى حقيقى يختلف الى هذا الحد وذاك عن البرنامج الأنتخابى للأخر، بل شعارات رنانة جوفاء لا تعنى شيئا على الأطلاق ولم تكن الشعارات الأنتخابية لزعماء الأحزاب الأخرى تختلف من حيث الجوهر عن شعارات هذين ( الزعيمين)، ومن الواضح تماما أن مثل هذه الشعارات لا تمت بصلة إلى الديمقراطية التي يزعمون أنهم يحملون لوائها ، لأن التنافس الحقيقي في ظل الديمقراطية يكون بين زعماء من ذوى الشخصيات المؤثرة حقا ولكن لهم برامج محددة وواضحة مطروحة على الشعب لنيل ثقته وتأييده لهذا البرنامج وذاك ، أما أدعياء الزعامة فأنهم يرفعون الشعارات البراقة من اجل تحقيق مكاسب حزبية وشخصية ضيقة
و ليس من قبيل المصادفة ان يتم التركيز فى الأونة الأخيرة على الترويج للرجل القوى الذي يستطيع حكم العراق بقبضة حديدية، حيث ظهرت خلال الأشهر الماضية مقالات كثيرة فى الصحافة ألأجنبية لكتاب عارضوا تحرير العراق من الدكتاتورية الصدامية ، وهم يزعمون الآن بأن العراق بحاجة إلى ( صدام ) آخر ليعيد الأمن والنظام إلى البلاد .
وتعج الساحة السياسية فىعراق ما بعد صدام ( ولا أقول الصدامية التي مازالت مهيمنة على الفكر والسلوك السياسي لزعماء أحزاب وكتل سياسية كثيرة فاعلة على الساحة السياسية العراقية في الوقت الراهن ) بزعماء مزيفين يسعون لأثبات الذات الطائفية ويلجأون إلى تسييس الدين واستغلال المشاعر الدينية للجماهير المسحوقة، لتحقيق مكاسب حزبية ومصالح شخصية ضيقة،. وهم يفتقرون الى ابسط المؤهلات المطلوبة لمن يتصدى للعمل السياسى – ناهيك عن الزعامة السياسية –لذا فقد اتخذوا من الطائفية المقيتة بوابات رئيسية للدخول إلى المعترك السياسي في مجتمع لم يعرف يوما اى نوع من أنواع التمييز الطائفي والديني في تأريخه المعاصر ،( أما المنافسة بين الدولتين العثمانية السنية والفارسية الشيعية، عندما كان العراق جزءا من الدولة العثمانية ، فلم يكن للشعب العراقي علاقة بها ولم تترك اى اثر على النسيج ألأجتماعى العراقي ، على النقيض من مزاعم بعض الكتاب والمؤرخين) وبذلك يسهمون عن قصد واصرارفى التفكك الأجتماعى والسياسى للمجتمع العراقى.وهذا يتناقض تماما مع الوحدة الوطنية والديمقراطية التى يتشدقون بها ولا يمارسونها فى حياتهم السياسية والحزبية واليومية.
ومن المفارقات التي تعج بها الساحة السياسية العراقية هذه الأيام ، ذلك الشعار الذي يردده زعيم احد الأحزاب العراقية من خلال القناة الفضائية العائدة له ويزعم فيه انه:يستخدم انتمائه الطائفي لخدمة العراق.! اى هراء هذا واى استخفاف بعقول العراقيين، أنها الثقافة الطائفية التي لا تعيش الا على التمييز ولا تستطيع الأحتفاظ بالسلطة الا بتمزيق اوصال المجتمع ، هذه الثقافة المتخلفة هى السلاح الوحيد لزعماء الطائفية المقيتة للقفز الى السلطة والتشبث بها ، مها كلف الشعب من مصائب وويلات وبؤس وشقاء وهى التى أوصلتنا إلى حالة الانحطاط الشامل والفوضى والقتل على الهوية والفساد التي يغرق فيها عراق اليوم .
ولكن لابد للعراق أن ينهض من كبوته ، فالجماهير المخدوعة والمخدرة بالشعارات الدينية الزائفة (والتي حملت أرواحها على اكفها وعبرت حقول الموت لتدلى بأصواتها في عمليتين انتخابيتين خلال عام واحد ) سوف تصحو قريبا وتكتشف أن هؤلاء السماسرة ليسوا أهلا للثقة ، وأنهم قد استخدموا المشاعر الدينية النبيلة للمواطنين للصعود إلى السلطة ، وليس لانتشال العراق من محنته وإعادة بناءه وخدمة شعبه، وسوف تظهر من بين صفوة المجتمع العراقي ( الزاخر بالوطنيين المخلصين من ذوى الكفاءات العالية والضمائر الحية ) زعماء سياسيين حقيقيين يتمتعون بالمؤهلات المطلوبة للزعامة من المتمسكين بالثوابت الوطنية والمعايير الديمقراطية والقيم الأخلاقية القادرين على انتشال الوطن من محنته وإخراجه من دائرة التعصب الطائفي والقتل المجانى إلى ضفاف التسامح ومن دهاليز الفساد السياسي --أم الفساد لأدارى والمالي - إلى ضؤ الشفافية ومن دائرة تقاسم الغنائم والمكاسب والأمتيازات الى دولة المؤسسات، وسيادة القانون واحترام حقوق الأنسان ومن ظلام الغيبيات والقرون الوسطى إلى عصر العلم والتقدم ..

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com