"عبدالله" يستولي على السلطة في تايلاند

 د. عبدالله المدني / باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية

elmadani@batelco.com.bh

من حيث المبدأ، لا خير في أي تغيير يأتي عبر الانقلابات العسكرية التي عادة ما تسفك فيها الدماء ويلجأ قادتها إلى تجميد العمل بالدستور والديمقراطية وفرض الأحكام العرفية ووضع الساسة المدنيين في السجون وإعدامهم. غير أن الانقلابات العسكرية في تايلاند تبدو مختلفة ومتميزة ككل شيء آخر في هذه البلاد الجميلة. فمنذ عام 1932 الذي شهد تحولها إلى النظام الملكي الدستوري، وقع 17 انقلابا عسكريا ، لئن اخذ معظمها البلاد بعيدا عن الديمقراطية الحقيقية لبعض الوقت، فإنها في الوقت نفسه لم تتسبب في إراقة الدماء ولم تقم المحاكمات  والمشانق لرموز العهد السابق ولم تتسب في إيقاف عجلة النهضة الاقتصادية. وخلافا لما حدث في دول الجوار كالفلبين واندونيسيا اللتين لهما تجارب مريرة مع الانقلابات وهيمنة الجيش على الحياة السياسية، فان كل الانقلابات العسكرية التايلاندية حرصت على الدوام ومنذ اللحظة الأولى على إبداء احترامها وولائها للنظام الملكي مجسدا في عاهل البلاد بهوميبول ادولياديج ذو الشعبية الطاغية والدور الحاسم في أوقات الأزمات المهددة لمصير الأمة. هذا ناهيك عن أن عددا من تلك الانقلابات وقع لتصحيح المسيرة الديمقراطية وبتأييد ضمني من الملك نفسه لإخراج البلاد من الاحتقانات والانقسامات التي تسبب فيها الساسة المدنيون.

 و هذا قد ينطبق على الانقلاب العسكري الذي أطاح في التاسع عشر من الشهر الجاري برئيس الحكومة الانتقالية تاكسين شيناواترا، بحسب الكثيرين من النخب التايلاندية، لأنه جاء كمخرج إجباري لحالة من الانقسام والجمود السياسي غير المسبوق في تاريخ البلاد منذ أكثر من عام ما بين مؤيدي حزب " تاي راك تاي" أي حزب " التايلانديون يحبون التايلانديين" بقيادة تاكسين من جهة وأنصار أحزاب المعارضة الرئيسية الثلاثة  والمقربين من القصر الملكي من جهة أخرى.

و تاكسين الذي فاز بالسلطة للمرة الأولى في عام 2001  عبر انتخابات ديمقراطية حرة، وظف جيدا صورته كضابط شرطة لامع سابقا وصاحب إمبراطورة أعمال ناجحة وقائد حزب سياسي جديد منظم لاحقا، في الهيمنة على الحياة السياسية. وعن طريق المال السياسي وإغداق العطايا ومنح القروض الميسرة وإقامة المشاريع الاجتماعية والصحية في الأرياف البعيدة حيث توجد غالبية الأصوات الانتخابية، نجح في بناء قاعدة شعبية قويه له. وهذا ما مكن حزبه من الفوز مجددا في الانتخابات البرلمانية التالية في عام 2005 . غير أن العودة إلى السلطة هذه المرة جاءت مصحوبة بامتعاض شعبي سرعان ما تحول إلى مظاهرات وتنديد يومي من قبل أحزاب المعارضة والنخب المدينية والطبقة الوسطى المتعلمة على خلفية اتهامات للرجل بالفساد  واستغلال السلطة ومحاباة الأنصار وإفساد الحياة السياسية ومحاولة تدشين نظام الحزب الواحد.

 وعلى اثر الكشف في يناير الماضي عن قيام رئيس الوزراء ببيع حصة عائلته في شركة شين للاتصالات إلى شركة حكومية سنغافورية بمبلغ بليوني دولار، زادت وتيرة الاحتجاجات ضد تاكسين متهمة إياه بالتفريط بأصول قومية استراتيجية لصالح الأجانب، واستغلال موقعه لإتمام الصفقة المذكورة دون دفع ضرائب لخزينة الدولة. هذا ناهيك عن ترديد اتهامات قديمة  قابلة للجدل مثل معاداته للنظام الملكي بدليل استبعاده لعدد من الموظفين الرسميين المقربين للملك،  وفشله في التعامل السليم مع أعمال العنف والتمرد في جنوب البلاد ذي الغالبية المسلمة،  والتي حصدت أرواح أكثر من 1700 شخص منذ عام 2004 ،  واستعداده للرضوخ إلى شروط واشنطون لجهة عقد اتفاقية للتجارة الحرة بين البلدين خلافا للرأي العام المعارض (رغم حقيقة انه بدون هذه الاتفاقية ستعاني البلاد من منافسة قوية من قبل المصدرين الآخرين في آسيا، وقد تخسر الأسواق الأمريكية التي بفضلها تتمتع تايلاند بفائض تجاري سنوي يزيد على 400 بليون بات).

 وفي محاولة من الرجل لتأكيد شرعية حكومته وامتلاكها للتخويل الشعبي وفق الأطر الديمقراطية، عمد إلى حل البرلمان قبل أوانه بثلاث سنوات وأجرى انتخابات تشريعية جديدة في ابريل المنصرم، وهي الانتخابات التي قاطعتها قوى المعارضة ولم تعترف بنتائجها التي أعطت تاكسين  نسبة 57 بالمئة من الأصوات، وبالتالي عمقت الانقسامات الداخلية. وفي ردها على الانتقادات التي وجهت إليها لعدم رضوخها لحكم صناديق الاقتراع، ردت المعارضة بالتذكير بفساد تاكسين  وحزبه وبطانته  كسبب للاشرعيته، وهو أمر بدا أن الملك يشارك المعارضة فيه، بدليل تلميحات صدرت منه حول انقسام الأمة وضرورة عمل شيء من اجل أن تستعيد الوئام والاتفاق. وكما في حالات سابقة، كانت تلك التلميحات الملكية النادرة كافية ليقدم تاكسين استقالته وينعزل لبضعة أسابيع قبل أن يعود على رأس حكومة انتقالية استعدادا لانتخابات جديدة كان من المقرر إجراؤها في نوفمبر القادم.

 و يبدو أن الرأي القائل بأن تاكسين لن يتزحزح عن القيادة بسهولة وانه سيفعل المستحيل لتأتي نتائج الانتخابات القادمة شبيهة بسابقتها، هو الذي انتصر ودفع قائد الجيش الجنرال سونتي بونياراتغلين (يعرف في أوساط طائفته الإسلامية باسم عبدالله) الموالي للقصر إلى الانقلاب كي يتغدى بتاكسين قبل أن يتعشى الأخير بمعارضيه، خاصة وأن تاكسين بما يملكه من نفوذ ومال  وطموحات عارمة بدا قادرا على إدارة الأمور الانتخابية بطريقة تصب في صالحه وتنصبه ملكا غير متوج للبلاد.

 و على أية حال فان الشائعات بقرب حدوث انقلاب عسكري كانت متداولة بكثرة في الأسابيع الأخيرة، في وقت راح فيه تاكسين يؤكد استحالة وقوعه، ربما تعويلا على إمساك عناصر موالية له في الجيش والشرطة بزمام الأمور في العاصمة من أولئك الذين تجاوز القانون والرتب في تعيينهم، فيما راح آخرون يؤكدون أن الانقلابات العسكرية كوسيلة للتغيير قد ولى زمانها، منذ أن قادت الجماهير وطلبة الجامعات بنجاح ثورة دموية شارعية في عام 1992 لإجبار رئيس الوزراء العسكري الجنرال سوتشيندا كرابرايون على الرحيل، وتدخل الملك لصالحهم. غير أن ما حدث مؤخرا يؤكد مرة أخرى أن المؤسسة العسكرية، لئن تراجع دورها كثيرا منذ ذلك الحدث المفصلي، فإنها لا تزال جاهزة للتدخل في الحياة السياسية مرحليا.

 وإذا كان التكتيك الذي اتبعه قائد الانقلاب الجديد للاستيلاء على السلطة ليس جديدا، بل مطابقا لما حدث في عام 1991 عندما أطاح الجيش بحكومة تشاتيتشاي تشونهافان المنتخبة ديمقراطيا من حيث الاستيلاء السريع على محطات التلفزة واستغلالها في إرسال رسائل التأييد والولاء للملك، فان ما اختلف هذه المرة هو انتهاز فرصة وجود رئيس الحكومة في الخارج للإطاحة به، ناهيك عن الاعتماد على جنرالات مقربين من القصر ممن أخرجهم تاكسين من مناصبهم لصالح قادة موالين له شخصيا في وقت سابق، وممن كانوا على لائحة تاكسين التطهيرية، وممن اتهموا في الشهر الماضي بالوقوف خلف محاولة فاشلة مزعومة لاغتيال تاكسين بسيارة مفخخة.

و الأمر المختلف الآخر هذه المرة، لكن دون الذهاب بعيدا في تخيل أمور ذات علاقة بسياسات تاكسين حيال التمرد الإسلامي في جنوب تايلاند، هو أن قائد الانقلاب هو من الأقلية المسلمة، بل أول جنرال مسلم يقود جيش هذه البلاد التي يدين غالبيتها الساحقة بالبوذية.

 أما السؤال الذي يتردد بقوة الآن فهو: هل سيفي قادة الانقلاب الجديد بوعودهم حول إعادة السلطة إلى المدنيين خلال عام؟ وما هي الآليات التي ينوون استحداثها في الدستور للحد من شراهة بعض الساسة للسلطة وتحكمهم فيها وإفسادهم للحياة السياسية على نحو ما أثير حول تاكسين؟ وإذا كان الرد على السؤال الثاني لا يزال مبكرا وإن قيل أن الانقلابيين سيشرفون مع القصر على إعداد دستور جديد يتضمن الحد من صلاحيات السلطة التنفيذية وتحديد حجم وقوة الأحزاب السياسية وتمتين آليات الرقابة والمساءلة، فان جملة من المؤشرات تفيد بأن جواب السؤال الأول هو نعم، لا سيما وأن الظروف الإقليمية والدولية لا تساعد اليوم على العكس.

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com