من اجواء الاعداد للمؤتمر الوطني الثامن للحزب الشيوعي العراقي

قصة قصيرة لها قصة طــويــلـة!

 يوسف ابو الفوز / سماوة القطب

fawz77@hotmail.com

(1)

اجواء الاعداد للمؤتمر الثامن للحزب الشيوعي العراقي ، واحدة من العلامات الاساسية التي تطغي هذه الايام على الاجواء السياسية والثقافية بين الشيوعيين العراقيين واصدقائهم والوسط اليساري والديمقراطي ، بل وتحظى باهتمام كل المعنين بتطور المسيرة السياسية في العراق ، فمن غرف المحادثة الصوتية في الانترنيت ، الى صفحات "طريق الشعب " ، والعديد من المواقع الاليكترونية ، تجد وجهات النظر تكتب وتناقش بحيوية وبروح تضفي على حياتنا بكل تعقيدها وهواجسها ومشاكلها طعما بالامل والثقة بالمستقبل الجديد الافضل . هذا شجعني لمراجعة ارشيفي ، للبحث عن مادة لكتابة شئ يتعلق بمؤتمرات الحزب الشيوعي العراقي السابقة. ووجدت ما يتطلب القاء الضوء عليه وتوثيقه ، ان لم يكن لاي سبب فللتأريخ وحده . في فترة وجودي في منطقة كوردستان العراق (1982 ـ 1988 ) ، ضمن فصائل انصار الحزب الشيوعي العراقي ، خلال سنوات الكفاح المسلح ضد نظام صدام حسين الديكتاتوري الشوفيني ، وفي خريف 1986 كنت ضمن مفرزة انصارية نتجول في منطقة ريف دهوك . في تلك الفترة كانت ثمة تغيرات كثيرة تجري في العالم . كان الفكر الاشتراكي يواجه امتحانات صعبة من خلال الاضطرابات السياسية والاجتماعية التي بدأت تظهر في البلدان التي تعرف بأسم "المنظومة الاشتراكية" وتقود الحكم فيها احزاب شيوعية ، وفي الحزب الشيوعي العراقي ، الذي كان يعاني من اوضاع داخلية يحتدم فيها الصراع الفكري ويبرز بأشكال مختلفة ، كانت قواعد وكوادر الحزب تشعر بحاجة ماسة لعقد مؤتمر وطني للحزب لاجراء تغيرات تنظيمية وفكرية اساسية لان الحياة تجاوزت الكثير من المفاهيم وتقاليد العمل ، وافرزت الكثير مما هو جديد الذي يتطلب اجراء عمليات تجديد وتغيرات عميقة في حياة الحزب الداخلية ، خصوصا على الصعيد التنظيمي . في تلك الايام ، خطرت لي فكرة كتابة نص ادبي يحمل شيئا من الهواجس ويعالج هذه الحاجة ويدعو لها بشكل ما . وبالاستفادة من استراحة قضيناها عند قرية كوردية ، كتبت نص قصة قصيرة ، حمل عنوان " النهر " ، وتاريخ 30/10/1986 ، وهو يعني تاريخ الكتابة الاولى للنص ، واسم قرية " جه ماني " ، وهو مكان كتابة النص ، وهذا  تقليد ما زلت اعتمده في كتاباتي . هذه القصة القصيرة ، هي الان جزء من مخطوط قصصي يبحث عن ناشر. وبحكم المعايشة الحميمة اليومية ، تلاقف الاصدقاء الانصار نص القصة ، وهي لا تزال في مسوداتها الاولى ، على طريقة اكل الخبز الحار مباشرة من التنور. ولاقت قصة "النهر" صدى طيبا بين القراء الانصار ، ممن اطلع عليها ، واستقبلوها بأهتمام ، سواء حين كانت في مسوداتها الاولى ، او حين نشرت لاول مرة في مجلات الانصار الدفترية ، وهي مجلات ادبية تصدرها اللجان الثقافية والاعلامية لوحدات المقاتلين الانصار، وكانت تصدر بأعداد محدودة جدا ومكتوبة باليد على صفحات دفاتر مدرسية ، وتتفاوت المستويات بين مجلة واخرى ، ولكن بعضها كان معمولا باتقان وبحرفية عالية لان من يشترك في اصدارها والمساهمة فيها هم من الكتاب والفنانين العراقيين البارزين المساهمين ايامها في قوات الانصار. لم تتوفر لقصة "النهر" فرصة النشر بشكل واسع الا في عام 1997 ، اذ ظهرت في العدد المزدوج رقم 274  لشهري كانون الاول ـ  شباط  من  مجلة " الثقافة الجديدة " ، التي كانت تصدر ايامها في دمشق. الا ان فرحتي بنشر قصة " النهر " بهذا الشكل الواسع لم  تستمر طويلا ، ففي صيف عام 1999 ، وبعد عامين من نشرها بلغني انها تعرضت للسرقة ، وان هناك من سطا عليها ونشرها بأسمه في احد المطبوعات السورية تحت عنوان " هناك عند الصخرة " ، بعد ان اجرى على نص القصة تغييرات طفيفة لا تذكر . فوجئت جدا حين علمت بأن السارق لم يكن كاتبا مبتدءا ، بل هو كاتب عربي معروف على صعيد ساحة الثقافة العربية ، ويصفه البعض بكونه "كاتب من الطراز الأول " ، ومن السهولة جدا العثورعلى اصداراته في المكتبات العربية ، مما جعلني اشعر بحيرة كبيرة من تصرفه وسلوكه، بل ودفعني تصرفه الى الشك بمصداقية اصداراته وانتاجاته. من اكتشف عملية السرقة ولعب دورا مشكورا في فضحها كان الفنان المسرحي العراقي صباح المندلاوي ، المقيم ايامها في دمشق . فمن حسن حظي ان الفنان صباح المندلاوي يتميز بذاكرة طيبة ، وكان قبل عامين ، من حدوث السرقة ، سبق له وقرأ قصة "النهر" منشورة وبتوقيعي في مجلة "الثقافة الجديدة" ، وتوقف يومها عندها كفكرة واسلوب ، فما ان طالع النسخة المزيفة المسروقة حتى اكتشف عملية السرقة بسهولة ، حيث ان النسخة المزيفة ظلت محتفظة ليس بنفس الاجواء بل وحتى بعض العبارات والحوارات . فورا بادر الفنان صباح المندلاوي للاتصال بالصحيفة السورية التي نشرت القصة المزيفة ، وتحرك بأسم " رابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين العراقيين " واراد فضح عملية السرقة بشكل علني ووفق الاصول القانونية ، واعد مقالا للنشر بهذا الخصوص . بعد معرفتي بالموضوع عبرت عن انزعاجي وغضبي ، وخوّلت الفنان صباح المندلاوي التصرف وفق ما يراه مناسبا . من جانبه دعا الفنان صباح المندلاوي الكاتب المذكور (السارق) ، الذي يصف نفسه بأنه " كاتب متمرس " الى اجتماع مع رئيس تحرير المطبوع الذي نشر القصة (بشكلها المزيف المسروق) وتم مواجهته بالامر ومقارنة النصين وتأريخ نشرهما فأسقط بين يديه . كان السيد رئيس التحرير مستاءا من تصرف الكاتب "المتمرس " ، ومتعاطفا  مع المطاليب التي قدمها الفنان صباح المندلاوي حول موضوع السرقة. ويبدو ان عوامل عديدة تدخلت ايامها ، منها كون ان الكاتب (السارق) له اعداء سينهشونه ( هكذا ..!) فيما لو افتضح الامر ووصل الى وسائل الاعلام ، ولكونه ينتمي الى تيار سياسي معين يعلن صداقته ودعمه لنضال الشعب العراقي ضد ديكتاتورية صدام حسين ، فجرى تسوية الامر معه بأن ارسل لي بخط  يده رسالة اعتذار من صفحتين فولسكاب ـ احتفظ بها في ارشيفي الخاص ـ ، ورغم انه كتبها بلغة ملتوية ، وحاول ان يسوّف الامر ويلتف عليه بالحديث عن ( ان التورط في تفجيرات المخزون الثقافي والفكري المتأتي عن القراءات المتسلسلة عبر زمن مديد تقود لمثل هذه الاشكالية الادبية والابداعية اذ تجعل من تماثل الاحداث والافكار التي تنتصب في الذهن والرؤية والهدف تماثلا في صياغة النسيج الابداعي وخاصة القصصي منه عبر مفاهيم متعددة من التناص والمثاقفة والمشابهة وتوارد الخواطر ) الا انه اقر بفعلته ، وسجل اعتذاره ووقع عليه . رجاني الاصدقاء يومها الاكتفاء برسالة الكاتب المذكور وعدم تصعيد المواجهة معه وغض النظر عن فعلته ، ووعدت الاصدقاء بأني لو ذكرت الحادث يوما ما فلن اورد اسم الكاتب السارق ، واذ تطلب مني هنا ايراد الحدث  ، وهو تأريخ ، فأني التزم بوعدي واكتفي بالاشارة الى الحادثة دون اسماء واشارات تقود لمعرفة الاسم ، ولكني سأكشف الاسم  فورا ـ كما وعدت ـ فيما لو تناهى لي ان الكاتب السارق "رفيع المستوى " و" المتمرس " كرر فعل السرقة مع كاتب غيري . اضع امام القراء الاعزاء من جديد قصة " النهر" مذكرا بانها كانت وليدة ظروف تدعو للتجديد والتغيير في الفكر والعمل ، وارجو قراءتها ارتباطا بتأريخ كتابتها ، واشدد على رجائي .

 

(2)

 قصة قصيرة :

 النـهــر

 

الغروب يحتضن المكان . الجو عاصف . النهر بدا غاضبا يتلاعب بزوارق الصيادين . النوارس هائجة تبحث عن ملاذ لها وتطلق أصواتا حادة كالاستغاثة .

بمحاذاة النهر تمرق السيارات . مغلقة الأبواب ، مسدلة الستائر، مكتضة بالركاب أو فارغة إلا أنها كانت تمرق بسرعة ، عدا سيارة تقف قبالة المرسى القديم ، سائقها ينبش في ماكينتها متجهما والى جانبه وقف مساعده يرتجف من البرد والحيرة .

عند الشاطئ وقف شاب يحدق إلى النهر الغاضب غير عابئ بالبرد أو الريح . داخل السيارة كان الركاب يتطلعون إلى ساعاتهم بإلحاح والتذمر يلوح على محياهم .

مال الرجل البدين الجالس في مقدمة السيارة إلى جاره ذي الحقيبة ( السامسونايت ) وقال بصوت مسموع وهو يشير بكفه الغليضة باتجاه الشاطئ :

ـ ماذا يفعل هذا المجنون هنا في مثل هذا الطقس ؟

رد صاحبه ذو الحقيبة بصوت أجش   :

ـ مجنون !

ضحكا بصوت عال وأخذا يهتزان في مقعديهما . توجهت أنظار الركاب إلى حيث أشار الرجل البدين فلاح لهم شاب منتصبا مثل سارية علم والريح تخفق بملابسه .

قالت أرملة شابة متشحة بالسواد لجارتها ذات الضفائر الطويلة :

ـ مسكين ، يبدو انه يعاني من الوحدة  .

أجابت جارتها وهي تعبث بضفيرتها بعصبية  :

ـ ربما و... قد يكون يعاني من تجربة حب فاشلة ، ومن يدري قد يكون اللحظة يفكربـ...الانتحار !

خلفها يجلس شاب بقميص ابيض موشى بزهور ناعمة ، تنهد ، حاول أن يرد عليهما إلا انه قدر أن ذلك سيكون تطفلا ، فقال لجاره ذي الوجه المجدور :

ـ انهما واهمتان، انه ينتظر حبيبته ، بالتأكيد هناك سبب ما أخرها ، انظر ، لا يحتمل طقسا كهذا إلا عاشق  .

نظر ذو الوجه المجدور إلى جاره مليا ، تفحص وجهه بحذر ثم قال بلا مبالاة  :

ـ ربما  !

ثم أدار بصره ليحدق جيدا بالشاب الذي لا يزال منتصبا  عند الشاطئ ، قال لنفسه :

ـ كلكم واهمون يا كلاب ... وبحاستي الخاصة أشم رائحة أخرى ، قد يكون هذا السافل متآمرا ولديه موعد ما .

من خلفهم مال عليهم رجل حليق الشارب وقال بتأدب وهو يشدد على مخارج الحروف  :

ـ عفوا ، قد يكون تطفلا مني ، ولكن إلا تعتقدون أن هذا الشاب  يود العبور إلى الضفة الثانية ؟

من مؤخرة السيارة  لوح شيخ بذراعه المعروقة وصاح بصوت عميق :

ـ بدلا من مؤتمر الاحتمالات هذا ، أليس من الاجدر معرفة خلل السيارة كي نسرع في مغادرة المكان ؟

ساد الهدوء لفترة من الزمن . نظر الجميع أثناءها إلى الشيخ بتبصر ، كل شخص حملت نظراته معنى ما ، ثم قطع الهدوء صوت السائق وهو يجاهد لافتعال ابتسامة بدت باهتة :

ـ يا أخوان ، سنتأخر قليلا ، فقط تحلوا بالصبر وان شاء الله سنتحرك .

عند الشاطئ فرك الشاب كفيه ببعضهما وهتف لنفسه  :

ـ سيصل ، لابد أن يصل !

ثم فكر وهو يراقب زورقا يصارع الموج ليبلغ الشاطئ الأخر :

ـ النهر ، الزورق ، الريح والإنسان . كل هذا يمكن أن أوظفه في كتابة قصة جديدة  !

وشعر بشيء يكبر في داخله ويطغي على كل ما يثار بسبب الريح أو البرد  :

ـ وصل !

هتف عاليا ولوح بيديه كالطفل وهو يرى الزورق يبلغ الشاطئ . غادر مكانه وشعور طاغ يتملكه بأن ريحا أخرى اشد تدوي في أعماقه وان النهر يصخب في خلاياه . بحركة رشيقة بارعة تخطى الحاجز الحديدي الواطئ ، نحو الشارع ، بلغ السيارة ، اجتازها دون أن يلتفت أليها. كانت عيون ركابها تتفحصه باهتمام كبير .

همس الرجل البدين :

ـ لا يبدو عليه الجنون .

هز ذو الحقيبة كتفيه :

 ـ ربما !

قالت الأرملة لجارتها ذات الضفائر :

ـ لا يبدو عليه الشعور بالوحدة .

أجابت الفتاة وهي تتنهد : 

ـ ولا يبدو ممن يفكرون بالانتحار .

قال الشاب ذو القميص الأبيض :

ـ يبدو أن أمرا مهما جعل حبيبته تتخلف عن الموعد .

قال ذو الوجه المجدور :

ـ لا يبدو مريبا للحد الذي تصورته .

تمتم الرجل الحليق الشارب :

ـ يبدو انه سيستخدم الجسر للعبور .

صاح الشيخ  :

ـ هل كتب علينا أن نتحجر هنا ؟

قال الشاب ذو القميص الأبيض :

ــ يبدو كذلك !

وتابع بنظراته الشاب الذي كان عند الشاطئ وهو يندفع للأمام على طول الشارع بمحاذاة النهر مبتعدا نحو قلب المدينة .

 

قرية جه ماني / ريف دهوك  ـ  كوردستان العراق  

 

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com