الرحلة الشامية  (الحلقة الثانية)

بهلول الكظماوي / أمستردام

bhlool2@hotmail.com

بداية سقوط الصنم في العراق، الذي آلمني أن يكون السقوط باهتاً على يد الامريكان، وهم أسياد هذا الصنم، وليس على سواعد أبناء شعبنا العراقي الذي طالما عانى من صاحب الصنم عقوداً مريرة مليئة بالحروب والكوارث والدمار والفجائع.

كنت بداية السقوط أتأسّف على الشيوخ والشيبة (كبار السن المعمّرين) الذين رحلوا من هذه الدنيا الى رضوان الله تعالى ولم يشاهدوا التغيير الذين طالما انتضروه بفارغ الصبر، اذ وافتهم المنيّة قبل التغيير.

و عندما ذهبت في رحلتي الاخيرة هذه الى الشام اتّجهت الى مقبرة السيدة زينب (ع) ووقفت على قبورهم وفاءً لذكراهم، وكما هو المعتاد حيث كنت أزورهم أثناء حياتهم فأجدهم مهملين مهمّشين، لا يكاد أحد أن يسأل عنهم وهم (كبار السن) المربّين الأفاضل الذين تعبوا وشقوا في هذه الحياة وانكبّوا على تعليم أبنائهم ليخرّجوهم من المعاهد والجامعات، وكثيراً من ابنائهم هؤلاء استمروا على مواصلة تعليمهم العالي فحصلوا على الدراسات العليا ونالوا اعلى الشهادات العلمية فخدموا بها العراق والعراقيين.

عدتهم (شيباً وشيوخاً) هذه المرّة وهم في تربهم لأقف عليها أقرأ لهم الفاتحة مترحّماً على أرواحهم الطاهرة, تلك الارواح التي لا تزال نصائح أصحابها تصدح في اذني، فأنا بمثابة بن أخيهم وبن رفيقهم الذي سبقهم الى رحمة الله :

يا ولدي لا تنعق مع كلّ ناعق!

يا ولدي أن الحياة علّمتنا أن التجارة في الدين وفي الوطنية لا تحتاج الى رأسمال!

يا ولدي ليس كلّ من لبس الجبّة والعمامة فقيه في الدين!

يا ولدي انّ كثيراً من الوكلاء الماليين للمراجع العظام يحملون وكالات للمراجع مزوّرة كما هي جوازات سفرهم وهوياتهم!

يا ولدي لا تغرّنك المظاهر والادّعاءآت!

يا ولدي الحديث الشريف يقول : خير الناس من نفع الناس!

يا ولدي الحديث الشريف يقول : سيد القوم خادمهم!

يا ولدي الحديث الشريف يقول : من نعم الله عليكم حاجة الناس لديكم!

يا ولدي من يتبجّحون بأنهم يتصدّون للأمور السياسة والأمور الدينية لأجل خدمة الناس، عليهم أن يعرفوا أن خدمة الناس تكليف وليست تشريف!

نعم وقفت على قبر المرحوم الحاج تقي ابو الورد، المرحوم الحاج رشيد القماش، المرحوم الحاج غلام الجواهري، المرحوم الحاج عبد الامير الكاظمي، المرحوم جعفر كاظم الحداد، المرحوم السيد رضا الوردي، المرحوم الحاج حميد الصحّاف.

ذهبت بعدها الى مقبرة نجها حيث يرقد هناك صديق طفولتي وصباي المرحوم على سعيد حداد قرأت لهم الفاتحة وحاكيت أرواحهم الطاهرة..... ولا أدري هل كنت أغبطهم على نومتهم الهادئة هذه حيث لم يروا التغيير الذي حصل فيما بعد التغيير، والحروب التي حصلت فيما بعد الحرب، كنت أغبطهم لأنهم لم يشاهدوا بأمّ أعينهم ولم يسمعوا ويعايشوا الفتن التي دبّت اليوم بين أبناء شعبنا الذي لم يكن يعرفها وطننا وشعبنا من قبل، شبّت بنا كالنار في الهشيم حيث يقتل العراقي أخيه العراقي، تاركين المستعمر اللعين يتفرّج على اضطرام النار التي أشعلها، وأتّقاد الفتن التي افتعلها فينا ليستثمرها في اطالة بقاء وجوده فينا.

(نعم المستعمر المحتل بحاجة الى أن تطول هذه الفتن فينا ما دامت انابيب نفطنا تضخ في بواخره وأسطيل بحره بدون وجود عدّادات تحسب له مقدار ما يسحبه من نفطنا المحروم شعبنا منه، وما دامت له مصالح في السيطرة على المنطقة، وما دامت مصانع اسلحته تنتج الاسلحة الفتاكة التي يبيعها لنا لنقاتل بها بعضنا بعضاً الى غيرها من الاهداف التي خفيت علينا لقصور فهمنا لها ولتواطئ متعمّد).

يا الهي كم نحن بحاجة الى هؤلاء أسياد القوم الراقدين هنا بسلام، هؤلاء الذين كانوا يرشدوننا في الملّمات وينجدونا في الأزمات، ويصلحوا ذات بيننا في الفتن والمنازعات.

و لكننا اهملناهم (هؤلاء الشيبة والشيوخ) عندما كانوا أحياء بيننا يرزقون، ولربّما حالة اهمالنا وتهميشنا لهم هذه هي احدى الأسباب المهمّة في تخلّفنا وفي هبوط وتدنّي مستوياتنا الأخلاقيّة.

تذكّرت منهم من لم يكن حاظراً في الشام ساعة وفاته فدفن في أرض اخرى.

قرأت الفاتحة على روح الحاج عبد الرحمن شكيب (الكتبي)، حيث لم أجد قبره هناك مردّداً أبيات كان يردّدها لي دائماً تقول :

لا تمدحنّ امرء حتّى تجرّبه....... ولا تذمّنه من غير تجريب

انّ الرجال صناديق مقفّلـة....... وما مفاتيحها الاّ التجاريب

آه.... يا ابو رؤوف.... يا عمّي عبد الرحمن شكيب كم هم الرجال الذين نسمع بهم ونراهم اليوم، ولكن لم نكن نجرّبهم من قبل حتّى نعلم صدقهم من ادّعائهم، وهل في العمر متّسع لتجربة هؤلاء جميعهم?

قرأت الفاتحة على روح المرحوم الحاج قاسم البغدادي الذي دفن في العراق بعيداً عن رفاقه المدفونين بالسيدة زينب (ع) فتذكّرت مقولته الشهيرة التي كان يردّدها دائماً :

محـّد يعرفك يا لبن الاّ الذي بأيده مردّك، أي لا أحد يعرف عن اللبن شيئ الاّ الذي عمله على يده.

ويضرب العراقيون هذا المثل في اشارة الى وجوب التحقّق ممّن يدعي الوجاهة والتصدي لأمور الناس الاجتماعية والدينية والسياسية.

و الحاج قاسم البغدادي هو والد الشهيد الدكتور هادي البغدادي (رض) الذي أعدمه النظام الصدّامي في العراق مطلع الثمانينات ضمن وجبة من الشهداء تبلغ اكثر من تسعين شهيداً دفعة واحدة مطلع سنيّ الثمانينات.

كانت مقولات الحاج عبد الرحمن شكيب والحاج قاسم البغدادي والسيد رضا الوردي رحمهم الله جميعاً يذكّروني برئيس المجمع العلمي العراقي والشاعر والسياسي البارع المخضرم الشيخ محمد رضا الشبيبي رحمه الله حيث يردد:

شعبي رؤوس كلّهم....... أرأيت مزرعة البصل?.

ارجع اليوم معقّـباً لأقول : وهل الشعب العراقي وحده رؤوس كلّهم?

ثمّ هل أرض العراق وحدها مزرعة للبصل?

حتماً قصد المرحوم الشبيبي شعوب المنطقة كلها وأوطاننا برمّتها، (اليست امتنا واحدة?) والاّ فهذا الذي يحدث في العراق اليوم من محاصصات وتزاحم على المناصب والامتيازات الى حد الاقتتال بين أبناء العمومة وأبناء البيت الواحد ما هو الاّ نموذج مصغّر لما سيحدث بالمنطقة مستقبلاً لا سمح الله.

و لكن المشكلة تكمن في عدم وجود قطر غير العراق تعرض لما تعرض له العراق من محنة دهماء دامت لأكثر من ثلاثة عقود أحرقت الأخضر واليابس وأتت على الكثير من مقدراتنا وبنانا التحتية حتى وصلت مؤخّراً الى تدمير بنانا الاجتماعية وروابطنا الاسرية وثوابتنا الأخلاقية، وهذا ما نشاهده اليوم في التصفيات الجسدية والاغتيالات التي تتم بين أبناء البيت الواحد.

صحيح ان بذور الفتنة كان قد غرسها المستعمر الطامع فينا، ولكن الأصح ان هذا المستعمر الطامع قد وجد استعداداً للاستجابة من البعض القليل منا لينجرّ اليه البعض الآخر انجراراً، وكان ولا يزال المستفيد الأول والأخير من هذا التمزّق هو المستعمر الأجنبي ولا أحد غيره.

و لو حصل ما حصل للعراق والعراقيين لشعب غير الشعب العراقي لكانت الكارثة أكبر وكان الانهيار أسرع وأمضى لا سمح الله.

و مع كلّ هذا الذي حصل فأنا لست متشائماً، بل أنا متفائل بأن شعبنا الجبار يمتلك الكثيرمن مقومات المقاومة لكل هذه الفتن الدخيلة، واراهن على أن شعبنا سيتغلّب على كلّ حالات التردّي والانهيارات التي حدثت وتحدث.

متفائل من خلال رؤيتي للشيخ الخليجي الذي رأيته في مطار دمشق وهو يحمل راية النصر (راية حزب الله) قافلاً بها الى بلده الغير مؤيّد لحزب الله.

متفائل بما شاهدته من مؤآزرة الشعب السوري لشقيقه الشعب اللبناني والوقوف معه في محنته أبان الحرب المقدّسة.

متفائل بالمظاهرات المليونية التي خرجت في العراق رغم وجود الاحتلال الغاشم مؤيّدة للحق العربي الاسلامي الذي تصدّى لاستحصاله حزب الله لبنان.

متفائل بمواقف السيد محمد حسين فضل الله ولقائي معه في دمشق والذي وصفت جزءً منه فيما سلف.

متفائل بالعمل الجبّار الذي قام به الاخ والصديق العزيز الدكتور عصام عباس (صاحب النجمة المحمدية) والذي التقيته بدمشق مؤخراً،

ذلك العمل الذي اثمر عن تلاقي وتلاقح أفكار ليست اسلامية اسلامية (شيعية سنية) فحسب، بل تجليّات ايمانية اسلامية مسيحية في رحاب سيدة الموقف الانساني الخالد والتوأم الشقيق للسيدة الطاهرة مريم العذراء (ع) الا وهي السيدة زينب بنت علي بن ابي طالب (ع).

و كانت الباكورة المثمرة لهذا العمل الكبير هو الاحتفال الذي أقامه قداسة القسّيس معن بيطار رئيس السنودس الانجيلي الوطني في سوريا ولبنان في كنيسة محردة احتفاءً بسيدة البيت المحمدي السيدة زينب (ع).

و من يريد الاستزادة في الاطلاع على هذا العمل الجبار والاطلاع على وقائع هذا الاحتفال الرائع العظيم ومطالعة كلمة القسيس السيد معن بيطار فما عليه الاّ أن يدخل الى الموقع الألكتروني لـ (بيت النجمة المحمدية) على العنوان ادناه :

www.al-najma.org/home

أنا متفائل لأنّ فينا الشهيد السعيد عثمان العبيدي الأعظميىالذي استشهد بحادثة جسر الأئمّة ليلقّن الأجانب الدخلاء درساً بأن العراقيين اخوة لا تفرقهم مؤآمرات ودسائس وفتن الاغراب وان الشيعة والسنة في العراق هما اخوة وابناء عمومة وخؤولة لن يفترقا حتى يتلاقوا على الحوض يوم الحشر انشاء الله تعالى.

انا متفائل بالشهادة التي وحّدت بين الشهيدين السعيدين الشيخين العاصي والبدي والشهيدين الصدرين رضوان الله عليهم أجمعين.

أنا متفائل بنخوة أهلنا في الأنبار اذ هبّوا لطرد ألأجانب الغرباء عن العراق هؤلاء الدخلاء ألأجابب الذين لم يألوا جهداً في بث روح الفرقة والعداء بين أبناء شعبنا العراقي المتآخي والمتسالم والمتعايش منذ أن وجد العراق والعراقيون.

ٍأرجع لأقول : ماذا عساي أن أفعل لأعبّر عن مدى تفائلي وشعوري بمستقبل زاهر رغم كل الانتكاسات التي يمر بها وطننا العربي والاسلامي، ورغم كل المؤآمرات التي تحاك ضدنا ورغم كل العصي التي توضع في عجلات تقدمنا سوى آيات من الذكر الحكيم :

بسم الله الرحمن الرحيم

و يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين. الانفال آية 30

و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا. العنكبوت آية 69

وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم امناً يعبدونني ولا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون. النور آية 55

تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين. القصص آية 83

صدق الله العلي العظيم

و الى لقاء قادم من رمضانيات – الرحلة الشامية

ودمتم لأخيكم

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com