هكذا إذن، إنها، وبكل بساطة، كتل فكرية متجانسة، لا تضاريس مختلفة تميّز سطحها المُسطـّح أصلاً، وليس بها أية نتوءات بارزة تميز أفرادها الواحد عن الآخر، وتتساوى ردّات الفعل العاطفية هنا، وبنفس الشدة، بين درجة الدكتوراه بالفيزياء النووية، مع شهادة محو الأمية الصادرة من مختار العزبة. وتتساوى تلك النفحة السلفية، حين تستيقظ في النفوس المغناطيسية، بين كتـّاب الماركسية، وصبيان القومية، وفتية الوهابية الزرقاوية. إنها توتاليتارية عفوية، فطرية، جامحة، لا يحركها غير الغيب المقدس، وأما الحاضر الممعن في غيه، وسوداويته، وتناقضاته، فأمره متروك ومؤجل لزمن غير مدرك. لا تقبل تلك الكتل المتشكلة في حقب الترسبات الإيديولوجية، جدلاً، أو مساومة، أو مراجعة لما ترسب في العقل الباطن من أغلال فكروية، لا تفتأ هي الأخرى، أن تتحكم حتى بصغائر السلوك الإنساني، وأبسطه، وتوجه حركة هذه الكائنات الهلامية العزلاء من أي زاد عقلي متجدد، والمستسلمة لأقدارها السماوية، وتتهادى بها كقشة في محيطات تسونامية هائجة.
بعد سقوط التوتاليتاريات القومية، وأفول عصر التوتاليتاريات الأممية، والحرب المعلنة، ورفع الجدران العالية، والمصدات الواقية في وجه العولمة الإنسانية الراقية، هاهي التوتاليتاريات الدينية، في غير مكان، تكشر عن أنيابها العاتية في محاولة للعودة إلى عصرها الذهبي، ومجدها الحجري. وإذا كانت تصريحات البابا تنم في مضمونها عن حنين دفين، لإحياء ذاك التراث القميء من المواجهات العبثية، وهي في جانب بارز تفسير، وانعكاس لتيار غير ظاهر في الغرب يتنامى كرد على تشدّد، وانتعاش الخطاب الإسلاموي، وهو سائر بالأمور نحو مواجهات محققة، فإن رد الفعل الإسلامي لم يكن هو الآخر سوى تأكيد مرير على انقطاع حبال الود بين الحضارات، واستحالة المضي قدماً إلى الأمام في أي حوار مثمر وبناء، وهو في المجمل تجسيد حي للتوتاليتارية الدينية المتنامية. نار الخلاف تحت الرماد، وأية كلمة هنا وهناك، تؤخذ بحساسية بالغة، وتحمل إرثاً مريراً من الأحقاد قد تولد انفجارات لا يحمد عقباها، ولا ينفع معها أي حوار، وما هذه التراجعات والاعتذارات سوى فواصل إعلانية لانقطاع خارج عن إرادة الجميع، ريثما يعود بث الصراع من جديد، والنفخ في قربة الخلافات التي تعيد حوارات الطرشان العقيمة إلى المربعات الأولى. وعلى طرفي الصراع يقف المعممون، بتيه وخيلاء، ومن خلفهم الجهلة، والمتعصبون، والرعاع، الذين انتزعوا المبادرة، من كافة القوى المدنية والعقلانية، وصارت إدارة الصراعات، برمتها، في أيديهم.
لم يعد هناك من حاجة وذريعة لإطباق الأغلال على ما هو مطبق سابقاً. كما لا تحتاج هذه التوتاليتارية الصاعدة من عهود الظلام، لدولة، ونظام، وأجهزة استخبارات، ووزارات ثقافة وإعلام، أو حتى لأية آليات للتواصل، بل يكفيها أي معمم، ليثير الفتنة، ويشعل النار، ويطلق العنان للغوغاء، والرعاع لوأد أي شعاع نور، أو فكرة، أو مجرد اقتراح لا يتماشى مع لون الحداد، وأثواب البداوة الرثة، التي تتكاثر كالفطر في شوارع مدن القمامة والذباب. إنه مارد القمع الدفين في ذوات حرمت من التعبير في أي مجال لا تجد لها متنفساً غير في الآخر المختلف الكافر، وتحمّله وزر كل الرذائل، والفسق، والموبقات. التوتاليتاريات العصبوية، القمعوية التي كانت ثمرة طبيعية للسياسات الجاهلة العمياء والتي قتلت في النفس كل إحساس نبيل، وشعور بالجمال تحاول العودة بالعصر لعصر البداوة والبعير والجـِمال.
وعندما تهتاج النوازع الدينية يصبح العقل مغيباً تماماً، والمحاكمة العقلية محرمة ومؤثمة، ومن هنا تنبع السهولة الكبرى في تجيير العواطف، وإلهاب العواطف، وتفجير المكامن التي لم تستطع أن تتنفس، أو تتحشرج أمام جبروت، وعظمة سلاطين الطغيان فتنفلت رعباً قاتلاً أمام الأغيار تلكم الأهداف السهلة، المسموح بإطلاق النار عليها، عشوائياً، ومن شتى العيارات، وتطويع كل ذلك الهيجان السلفي في مشاريع الإمبراطوريات التوتاليتارية الأصولية المزمع قيامها في هذا الأصقاع الخاوية من أية نسائم إشعاعية قد تهب على نوافذ عقلية محكمة الإغلاق. لقد رأينا بأم العين كيف كان رجع الصدى، وردة الفعل التوتاليارية الدينية العنيفة لما صدر في سياق محاضرة أكاديمية لبابا الفاتيكان، لم تخل هي الأخرى من نوازع توتاليتارية فقعاء، وعقد حضارية جدباء، وبالطبع، من دون أن يطـّلع معظم أولئك الهائجون، على فحوى هذه المحاضرة، وربما، لا يعون المعنى الحقيقي لمفردة المحاضرة، تلك المترادفة الأكاديمية المنقرضة، والتي لا لزوم لها في عالم الأزقة، وأحزمة البؤس، والشوارع المقفرة من كل بعد حضاري وإنساني. فهل أصبحت هذه التوتاليتاريات الدينية المتجددة واقعاً محسوساً يعيشه العالم؟ وهل أصبحت نظاماً لا يمكن التحكم به؟ وما السر في أنه يهتاج بين الفينة والأخرى وتحت الطلب، ووقع النبأ فقط؟ ولا تقوم له قائمة أمام القضايا المصيرية الكبرى ؟ وهل هناك سوء استغلال لهذه التركيبة الإيديولوجية التي يصعب التحكم بها وإخضاعها لأي معيار فيما يستثمرها البعض ا لغايات سياسية محضة؟
هذا هو قدر العالم التائه في بحور الأفكار السلفية أن يبقى أبد الدهر موزعاً بين ركام التوتاليتاريات القومية، والماركسية، والأصولية الدينية، والتي لشدة ضرواتها، وسطوتها لا تترك أفقاً للتعايش، أو لتفعيل الأخوة الإنسانية بين بني البشر .