|
العشاء الأخير للسيد .. العراق باسم السعيدي / بغداد يقولون إن اللغة عاهر، تنام على فرش كل العشارين بلا تمييز، وتنتقي الرحلة القادمة لترتقي صهوة حروفها المغلفة بـــإضطهاد الزمن، والشخوص، والحدث، لتبدو وكأنها عرس حاضر لمن يتقدم لخطبتها، فتلوذ بجنبيه، ويلوذ بطياتها اللدنة.. لتنتهي به جثة في زمن لم يكن.. ولم يكن ليكن إلا بها. هكذا.. بهذه الكيفية وُلد العراق.. وبالكيفية ذاتها تغتاله اللغة لتحصد وجوده المتسمى بأبنائه الذين لم ينجبهم من رحم الدعة والرخاء.. بل كان مخاضه بهم.. ومخاضهم به.. أقرب الى تلاعب باللغة قبل أن يكون واقعاً. حين وقف سرجون الأكدي ليبتلع طعم الخرافة على شطآن بابل.. كان أبناء سارة التي لم تولد إلا بعين واحدة يقفون مصفدين.. لكنهم يقسمون بين طيات ضمائرهم المتآكلة كصدأ (مبردة عراقية ) تسحب أنفاسها من سيجارة تموز لتنفثه في وجوه العراقيين.. أن آل سرجون سيدفعون الثمن. وحين وقف جلجامش أمام غابات سودوم وعامورة ليستعيد الصورة الممزقة لسرجون حيث نبذته منظمة العفو الدولية، وصفقت أمنيستي إنترناشيونال الباب بوجهه المتجعد كدشداشة عراقي مخبئة في حقيبته التي لم تقيء غير الملابس خاكية اللون ليخدم صاحبها الى أبد الآبدين في جيش سرجون الأكدي.. كان جلجامش لايفقه معنى الأمنيستي إنترانشيونال لكي يهلل ويبسمل ويحوقل.. فعاد أدراجه بعشبة لاتضر ولاتنفع.. إلا أنه قام بتسويقها للبسطاء على أنها عشبة الحياة. تكور السيد العراق على نفسه حين وطأته أقدام الجبابرة الكسرويين كجبل يخجل من قممه المشبعة بالثلج فنسيت لون التربة التي جبلت منها.. وكان رستم هو الذي دلف الباب على ذلك الشيخ الحزين المتكور.. وهو أول من سحب قصعة الطعام من أمامه ليتركه يجتر أحزانه بدلاً من أن يلوك أعداءه. رفع السيد العراق رأسه الأشيب حين سمع صرخة عمر بن الخطاب بين ظهراني أهل يثرب.. يا سارية الجبل، وتطلّع الى الزاوية التي كان يستنجي بها، حاول التحامل على هزاله.. وأراد الوقوف.. لكنه إنكفأ ثانية.. ونام على جراحه التي كان كل جرح منها يتسع للغة كاملة من البلاغة.. لتتضح بعدها مخزونات الألم التاريخي التي لم ولن تندمل لتنفجر في وجهه فيرتد اليه البصر خاوياً.. وهو حسير. كان السيد العراق جالساً في إحدى زوايا مسجد الكوفة.. يلعق أصابعه من ترويقة ماكادت تستقر في جوفه..حتى وثب اليه معاوية.. وأجلسه من رقدته لينظر بعينه التي أتعبتها السنون العجاف..المشهد المسرحي.. إبن ملجم نائم على بطنه.. وعلي يـُكبـِّر.. داعياً الى الصلاة.. وما إن دخل في الصلاة حتى عاجله ابن ملجم بسيفه الذي أنقع سمّاً.. كل نظريات العلم تقول إن الحديد لا يتشرب السوائل.. يلتاث بها لكنه لاينقع أبداً.. إلا أن حظوظ السيد العراق من الدنيا هي هي.. فمن أجل عينيه قرر الحديد أن يتخلّى عن سماته المعهودة.. لينتقع بسم عبد الرحمن بن ملجم.. كي يفلق هامة علي بن أبي طالب.. فيقعد السيد العراق ملوماً محسورا. شاءت الأقدار أن أكون واقفاً على كثبان صحراء الناصرية.. ما يدعونها نقرة السلمان حين مرَّ الحسين بركبه من هناك في طريقه الى الكوفة.. لم يكن أحد قد سمع بكربلاء وقتذاك..أوقفت فرسه وتشبثت بلجامها.. فاستغرب وقفتي.. وقال لي " تنحَّ أيها الفتى " فأجبته بجلدٍ استغربته أنا نفسي : " أتدري الى أي مأدبة أنت ذاهب؟؟" فقال بحزن : " أنا ذاهب لتطعم الضباع لحمي.. ولحمتي " فقلت له بحزن أكبر : " إرحم غربة هذا الشيخ !!! " فنظر بحزن الى السيد العراق وكان مقرفصاً في نقرة السلمان.. ينتظر غداءه الموعود الذي تغدق عليه نوائب الدهر وفجائعه.. فقال الحسين : " دعوه فإنه قد كتب الله عليه أن يلعق أقدام الغرباء، ويقضم أصابع نفسه، ووالله ليقضمن قدميه جميعا حتى لايجدن ما يقضمه فيموت بلا عشاء ". ولكز الحسين خاصرة فرسه ومضى بعيداً نحو المأدبة التي هو كبشها. مرَّت القرون على السيد العراق بمسغبة مابعدها مسغبة، ينظر بكلتا عينية الدامعتين الى قصر الخلد.. والى عروش الزناة وهي تفترش الجواري.. وتصخب بأجمل قصائد المداحين.. وأعتى خطب الوعّاظ.. ناظراً الى الشمس الغاربة وهي تنحنى إجلالاً للعتوِّ بعد أن نست كرامتها وكراماتها، وقف على خصر دجلة المزرق بلون الحبر المسفوح.. وانتقل الى ضفتها الأخرى المحمرَّةِ بلون التيه الأكبر.. ونظر الى هولاكو وهو يزمجر على ما تبقّى من خرق تلفلف عورة السيد العراق.. نظر الى الشمس.. كان المغيب قاب قوسين أو أدنى.. لكنه يأبى أن يولد من سِفاحِ فرج مزكوم بالتيه. حدث أن نامت أعين الجبناء.. ولعبت جندرمة الأستانة بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل، وكان الباشوات يقفون بالدور بانتظار أن يلعق السيد المريض أصابع أقدامهم،هل إستمرأ الإستعاضة باللعق بدلاً من أن يملأ حقب الجوع بجثث هؤلاء السمان ؟ لا أدري فحتى التأريخ لم يجب عن هذا السؤال الأزلي. وحدث أن نامت أعين الجبناء ثانية.. ولعبت آل بويه بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل.. وظل هؤلاء وهؤلاء يتعاقبان الدور للـَّعق.. وبقي الشيخ يفتقر الى الأسنان التي يعض بها على أصابع الآخرين.. وكما قال الحسين فإنه كان يجد تلك الأسنان ليأكل بنيه.. كقطة متوحشة إستخسرت اللحم الطريَّ في أن يأكله البغاة.. فأكلته هي. وقف الجنرال مود على ما تبقى من هذا الشيخ.. ذلك الجنين الذي لم يولد ولن يولد.. ربت على كتفيه ونفض التراب.. ثم ركل مؤخرته ليدفع به في لعبة (الحية ودرج) ثمانين عاماً أخرى ومضى بعيداً. وفي يوم من أيام ( آب اللهاب ) في الثاني منه كان السيد العراق يرقص فرحاً وهم يولمون له الوليمة.. كان ينتظر عشاءه الأخير.. فلما جلس على مائدة الطعام كانت الوليمة ليست سوى شقيقته الصغرى.. طبخوها له بعد أن إغتصبوها مراراً وتكراراً حتى حبلت بسبعين نغلاً.. كلهم مطبوخون معها على المائدة ذاتها.. حاول أن يتملص من الوليمة.. ويتنصل من الجريمة.. لكنه كان قد دفع ثمن تذكرة الدخول الى الحفل فمضى معهم يلوك ويلوك ويلوك.. لكنه لم يطعم لقمة واحدة.. ولم يبتلع في بطنه من لحم الشقيقة أو نغولتها، لم يشرب قطرة من الخمرة المعتّقة من دماء الضحايا في سراديب الرذيلة.. لكنه وقف نهاية الحفل ليعلن أنه في طريقه الى إستفراغ الوليمة.. وإستفرغ من بطنه هو.. لحمه هو.. لأنه لم يطعم غير لحمه أبداً. في إحدى ليالي الربيع المأزوم بحنّاء الخؤولة العربية العتيدة طرق العم سام الباب بمطرقته الحديدية.. ودخل الى ما تبقّى من الزريبة التي ينام فيها ذلك السيد العراق.. ومضى يبحث عن فأر طليق في زريبة خربة.. فزاد خرابها خراباً.. وبؤسها شقاءاً.. وفتح الأبواب المشرعة لكل فئران هذه التي يقال لها البسيطة. كانت الأيام التي تلت ذلك النيسان إمتحاناً عسيراً للجميع.. فقد وقفوا على طرفي نقيض في معادلة كانت تعني الإنقسام المجتمعي. لم يدُر بخلد أحد أن المواقف السياسية من الحدث ستكون بمثل ذلك التطرف، ظن البعض أن ما حدث كان كافياً لفهم الخطيئة المتعاظمة التي نالت وتنال من جسد العراق، وأن ما جرى هو نتيجة طبيعية للقهر الذي مارسه الطغاة بحق المقهورين !! وظن آخرون أن إنتفاضة عام 1991 ما هي إلا ثورة مجاميع من الخونة لم يُتَح لها أن تتكلل بالنجاح إلا في نيسان 2003. تحول الجميع الى معسكرين.. معسكر مساجين سابقين، ومعسكر سجّانين سابقين. لم يفهم المعسكر الثاني أنه يصنِّف نفسه بنفسه على تلك الشاكلة.. كما لم يفهم المعسكر الأول مدى القلق الذي ينهش لحم المعسكر الثاني.. ومضى كلُّ فريقٍ بما لديهم فرحين. كان العم سام هو الحاضر الغائب في تلك المعادلة.. فالسيارات المفخخة والعبوات الناسفة تطيح بهؤلاء.. لأنهم من الخونة الذين فرحوا بسقوط تمثال الفردوس، وكان أولئك يبتعدون أكثر فأكثر عن نقطة الإلتقاء الوسطى.. إنجرافاً مع تيار يفترض به أن يحارب وجود العم سام.. بينما كان العم سام يتربع على عرش مقاليد السيد العراق لا يكاد يقدم من الضحايا ما يعادل واحد بالمئة مما يقدمه المعسكران. حالة التشظّي باتت واقعاً يحياه الجميع، وكانت رحلة حمل السلاح الأفقي (البيني) التي يراد لها أن تنقضي وتطوى معها رحلة عجَّت بالمآسي كانت هذه الرحلة قد بدأت التيار المعاكس للجانب الذي شعر بأنه يُقْتل ببشاعة بينما يتفرَّج العالم على مقتلته العظيمة بصمت. الحقيقة هي أن الذين أشعلوا حرباً أهلية باتوا يكتوون بنيرانها، والصراخ الذي كنا نسمعه من جهة واحدة.. صرنا نسمعه من جميع الجهات.. والعم سام يتفرَّج على المسرحية التي شارك في صنعها بصمته على أقل التقديرات. القتل لا يصيبن من القتلة إلا لماماً.. كما هو ديدن كل الحروب القذرة، فالأبرياء هم دوما وقود تلك المعارك الدون كيشوتية التي لاتخاض مع مستحقيها. إتضحت الان الرؤية أكثر.. والخندقان باتا أكثر تبايناً منهما في أي وقت مضى، والزريبة الواحدة باتت زرائب عدة. لقد امست الجثث المتحللة مثقوبة الرأس برصاصة النقمة والإنتقام الملقاة في المزابل هي العشاء الأخير للسيد العراق.. حيث سينام نومته الأبدية.. التي لن يصحو منها قط.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |