أطفال الانفال - 6

يوسف أبو الفوز

fawz77@hotmail.com

اطفال الانفال هو العنوان الداخلي لكتابي، الذي اردته شهادة بلسان ضحايا وشهود جريمة الانفال بحق ابناء شعبنا الكوردي، والذي بدأت العمل فيه بعد احداث الانفال مباشرة، وكنا لا نزال بالملابس التي اجتزنا فيها الحدود العراقية نحو الاراضي الايرانية، وفيما بعد صدر عن وزارة الثقافة الكردية في السليمانية، شتاء 2004، وتحت عنوان (لدي اسئلة كثيرة او اطفال الانفال ). حيث كنت مع انصار الحزب الشيوعي العراقي، في قلب الاحداث، وسط أجواء التحدي والموت والجوع والعطش. كنت مع بسطاء الناس، جزءا من المأساة، وواحدا من ضحاياها. كنت مع الجميع شاهدا على كثير من فصول جريمة الديكتاتور المجرم ونظامه الشوفيني الفاشي، و ما جرى بحق ابناء شعبنا الكوردي.

في صفحات الكتاب ـ الشهادة حاولت أن ارصد بعض مما جرى، ومن خلال زاوية محددة: الأطفال الأكراد.

لم اكتب فقط ما رأيت، وما سجلت في دفاتري، فشهادتي وشهادة الآلاف من الرجال والنساء، المقاتلين والطلاب والفلاحين لن تجسد الحقائق المروعة اكثر من شهادات الأطفال أنفسهم الممهورة بالصدق والبراءة والرعب، حملت أوراقي وتوجهت للأطفال وسجلت شهاداتهم مباشرة، ورتبتها هنا دون اثقالها بالاسئلة التي حاورتهم بها، والتي يمكن للقارئ الكريم التكهن بها من طبيعة الاجوبة.

في الحلقة رقم 1 نشرت جزءا من مقدمة الكتاب ليكون القارئ في صورة الاحداث، وفي هذه الحلقات المتتابعة اورد بعض القصص ـ الشهادات التي ضمها الكتاب.

 

***

 اطفال كوردستان: البيشمه ركه فتحوا لنا الطريق إلى الحياة !

 6 ـ نداء لطفي حاتم

 اسمي نداء.عمري 10 سنوات.قبل ست سنوات التحق والدي مع قوات الأنصار. أنصارالحزب الشيوعي العراقي. لم ادخل مدرسة. والدي والأنصارعلموني القراءة والكتابة. كنت دائما في مقر الأنصار. في مقرزيوة (1). لم أغادره كثيرا. مرات تأخذني أمي إلى بعض القرى القريبة. ماما طبيبة، تعالج الأنصار والناس في القرى. كثيرا ما كانوا يقصفون مقرنا بالمدفعية والراجمات، ودائما ما يأتي الطيران. لا أخاف المدفعية كثيرا. تعودنا عليها. كل يوم تقريبا يقصفون المقر. أخاف كثيرا من الطيران. حين قصفوا مقر زيوة بالسلاح الكيمياوي (2)، أصبت بالعمى لاربعة أيام. وكذلك مجد ومسار (3). لم يصب سمسم ومشمش (4) لانهم جلسوا قرب النار.كذلك لم يصب سيفان (5) ولم يحصل له شيئا، اعتقد لو أصيب انه سيموت، كان صغيرا جدا !

بعد التقدم، في الأنفال، حين انسحبنا من المقر ذهبنا أولا إلى الفصيل المستقل، ثم تحركنا كلنا إلى الحدود التركية. خمسة أيام مسير متواصل حتى وصلنا الحدود. كنت أسير على قدمي. لاتوجد معنا حيوانات. لم يحملني أحد. كنت أتقيأ من التعب. كان الماء معنا قليل. وكذلك الأكل. كنا نتحرك بسرعة. قبلنا سارت عوائل، وبعدنا أيضا. عوائل كثيرة. لم يأت الطيران خلفنا، ولكن كنا كلما نترك مكان يقصفونه بعدنا. بعد وصولنا تركيا بقينا فيها 15 يوما بدون خيم. كنا نعصر البطانيات صباحا من الندى. كانوا يعطونا خبز قليل. وجئنا إلى إيران. هنا سمعت أن أطفالا ماتوا من الإسهال الحاد. ماما تقول انهم صغار جدا.

حلبجة اعرفها. قصفها صدام بالكيمياوي. يتحدث الناس عنها. رأيت صورها. لا يمكن النظر لها طويلا. أتمنى أن يموت صدام. حتى نرجع إلى وطننا، ألا تعرف هذا ؟ سؤالك غريب ! الوطن اجمل. طبعا. بابا وماما يتحدثون عنه باستمرار. أنا لا أتذكر شيئا. لم أر غير مقر زيوة. لكن أكيد أن الوطن حلو. كوردستان حلوة !

 7 ـ عبد الستار طه

اسمي عبد الستار. عمري 11 سنة. من قرية (ئه سبيندار برواري). أبي بيشمه ركه. درست سنة واحدة في "مدرسة الثورة" (6) في قرية بيرمان. قصف الطيران القرية فاصاب صاروخ مدرستنا فاحرقها. بعد التقدم ذهبنا إلى تركيا. لاحقنا الطيران في الليل. قصف الاستراحة عند قرية دزكه. سقط الصاروخ قريبا منا جدا. خفت كثيرا. قتل كلبنا (به شو). كنت احبه كثيرا. أيضا قتلت ثمان دجاجات كنا قد جلبناها معنا. ليلة انسحابنا. إلى تركيا كان أبي قد ذهب مع البيشمه ركه لجلب سلاح الدوشكا. وصل التقدم قريبا من القرية. ووصل أبي متأخرا. فتركنا كل شئ في البيت. نسيت أمي قلادتها وأساورها. من الذهب طبعا.

لم نبق في تركيا طويلا. جئنا إلى إيران. قالوا هنا احسن. نحن هنا أغراب. الحياة هنا صعبة. إذا مات صدام سنعود إلى كوردستان.

في الطريق إلى تركيا اعترضنا قطاع طرق أتراك. ستة أنفار انفردوا بأبي كانوا يريدون ذهب وفلوس. ضربوا أبي باخامص بنادقهم. في اللحظات الاخيرة وصل بعض الناس فهرب قطاع الطرق. رجل من جيراننا حكى لنا أن قطاع الطرق أرادوا ذبح ابي بالسكين، اخذوا أغنامنا في منطقة اسمها فري. بعد العفو، حين أرادت بعض العوائل تسليم نفسها لصدام شاركت في المظاهرات. رمينا سيارات صدام التي وصلت بالحجارة.

حلبجة اعرفها. حين اسمع أغنية شفان (7) عن حلبجة اشعر بالحزن. أمي تبكي. رأيت صور حلبجة. تخوف جدا !

8 ـ سالم تحسين

اسمي سالم. عمري 7 سنوات. من قرية ئه سبيندار برواري. والدي بيشمه ركه شهيد في عملية (ديره لوك) (8). أنا أخو فيصل. أنت تعرفه جيدا. لم ادخل المدرسة. في الطريق إلى تركيا ضاع ثلاثة أطفال من قافلة قرية ياسنة، اعرف واحد منهم. لا أتذكر اسمه. هو بعمر نهاد. في الطريق مات ارسلان بن محمد طاهر من قريتنا (ئه سبيندار) كان يمشي خلف البغل، وكان الطريق يمر عند حافة قطع عال (9)، زاحمه البغل فسقط من أعلى القطع. وفي ذات اليوم ماتت أمه من القهر. اسمها حسنة. بقيت العائلة موجودة ألان في تركيا. في الطريق أيضا ماتت طفلة صغيرة، لا اعرف اسمها. هي ابنة جاسم من مدينة عقرة.

مدينة حلبجة اعرفها. شفان يغني عنها. أخي فيصل يردد دائما أغاني شيفان. أنا احب الأنصار. اعرف منهم الكثير، كانوا يزورون قريتنا. أعرفك انت. كانوا يزورون قريتنا باستمرار.

9 ـ بريفان مراد

اسمي بريفان. عمري 11 سنة. بالأصل نحن من قرية (سه يري)، في منطقة نهيلة. هجرتنا السلطة بالقوة قبل تسع سنوات، ونقلونا إلى قرية (جه مه ده شت) قرب عقرة بطائرات الهليكوبتر بعد أربعة أيام هربنا من جه مه ده شت إلى قرية (به يا)، وبقينا فيها تسع سنوات حتى التقدم الأخير.

أبي فلاح، وأيضا لدينا أغنام. لم اذهب للمدرسة. كنت اعمل في رعي أغنامنا. كانت هناك ربايا قريبة إلى القرية. كنت أخاف منها كانوا يقصفون قريتنا بالمدفعية. وكثيرا ما يأتي الطيران فوق قريتنا، ويقصف مقرات البيشمه ركه، أنا لا أخاف كثيرا، لكن أختي عائشة تخاف جدا، عائشة اكبر مني، عمرها 12 سنة.

مع بدء التحشيدات، ومجيء قوات صدام إلى المنطقة، غادرنا القرية أنا وأخي، أخذنا الأغنام إلى مكان قريب من قرية باني، بعد فترة لحقت بنا أمي، ونقلنا أغراضنا إلى مكان قريب من (كاني كيسك ) حيث يوجد مكان جيد للاختباء، أشجار كثيفة، انتقلنا إلى هناك، بعد أربعة أيام جاء أقاربنا من منطقة (به ري كاره )، وفي اليوم التالي بدأ الطيران يقصف المنطقة، فجاءنا ليلا أحد رجال القرية وطلب تهيئة خبز بكمية كبيرة، الناس كانوا يهربون إلى الكهوف، وبدأت قوات الجيش تقترب، ويقصفون المنطقة طول النهار. تركنا مكاننا وتوجهنا إلى الزاب. قرب قرية (صوريا) قصفتنا المدفعية بشكل شديد. انقسمت العوائل إلى عدة طرق. الجحوش قطعوا الطريق علينا. جاء البيشمه ركه واشتبكوا معهم في معركة وفتحوا لنا الطريق. بيشمه ركه الحزب الشيوعي ( العراقي ).

في المسير من (به يا) إلى صوريا، مرت علينا أربع نهارات وليالي، كلها تعب بدون نوم، تركنا الأغنام، وأيضا كان لدينا بغل واحد، تركناها كلها عند قرية صوريا.

بعد قرية صوريا، انقسمت عائلتنا إلى قسمين: أنا وأخي دلخواز وأخواتي الاثنتين، وأمي وزوجة أبي، وأخي كمال وزوجته وطفلين فقط من أطفالهم الثلاثة، هؤلاء كلنا ألان في إيران، بينما في تركيا هناك أبي وشعبان ابن أخي كمال وهو لا يزال رضيع !

في الطريق رأينا الموت اكثر من مرة، من العطش والجوع والخوف. رأيت كثيرا من الأطفال الذين ماتوا. أكثرهم ماتوا من الخوف. لا أتذكر أسمائهم. لم يكن هناك وقت لدفنهم، كانوا يتركونهم على الطريق، وكنا نمر بهم. كنت ارتجف حين أرى طفلا ميتا، زوجة أخي كمال كانت تبكي، طوال الطريق ظلت تبكي على ابنها شعبان.

حين وصلنا تركيا. أخذونا إلى مجمع كيفري. بحثنا عن والدي. لم نجده. قالوا لنا ذهب إلى إيران، فجئنا إلى إيران.

هنا الحياة صعبة. الأطفال كل يوم يموت واحد منهم من الجوع، لا يوجد حليب، الإسهال منتشر بينهم.

لو مات صدام، لن نتأخر هنا يوم واحد. بلادنا أحلى لولا صدام والكيمياوي.

اعرف حلبجة جيدا. قتل صدام أهلها بالكيمياوي. احب أن يموت صدام لانه عدونا، طردنا من قريتنا، انه عدونا. قريتنا جميلة، دائما يأتي البيشمه ركه إلى قريتنا. مقر كافيا، مقر بيشمه ركه الحزب الشيوعي (العراقي) قريب إلى قريتنا، يبعد مسافة ساعتين مشي، أنا احب البيشمه ركه، عند الزاب خلصونا من حصار الجحوش، فتحوا لنا الطريق إلى الحياة !

 

هوامش

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ مقر زيوة: مقر قيادة قاطع بهدينان لانصار الحزب الشيوعي العراقي، ويقع في منطقة حدودية من محافظة دهوك، عند نهر الزاب.

2 ـ في تاريخ 5/6 / 1987 قامت تسع طائرات حربية من طيران النظام الديكتاتوري العراقي بقصف مقر زيوة لأنصار الحزب الشيوعي العراقي، بالغازات السامة، واستشهد النصيران أبو فؤاد، و أبو رزكار وجرح النصيران عباس وخابور بجروح بليغة واصيب بتأثير الغازات السامة (149) نصير ومواطن.

3 ـ مجد ومسار: أطفال الشهيد أبو رغد ( عباس الجصاني ) كانا وامهم، من ضمن المصابين بالغازات السامة في الهجوم على مقر زيوة للأنصار في 5/6 / 1987.

4 ـ مشمش وسمسم: هي أسماء دلع ( و... حركية !) لطفلين عرفا بهذين الاسمين بين الأنصار بحيث غطت على أسمائهم الصريحة، وهما ولدي نصيرين من أنصار الحزب الشيوعي العراقي

5 ـ سيفان: طفل لنصيرين من أنصار الحزب الشيوعي العراقي، وكان عمره بضعة شهور يوم حادث القصف بالغازات السامة

 6 ـ مدارس الثورة: وتسمى باللغة الكوردية ( قوتابخانه ى شورش )، وهي تجربة واجهتها الكثير من المصاعب والعراقيل، فلم تساعد على انتشارها وبقيت محصورة ببعض القرى وبعض القوى السياسية، حيث قامت قوات البيشمه ركه بفتح صفوف دراسية للأطفال في بعض القرى في المناطق المحررة، وحيث يقوم في التدريس فيها الأنصار أنفسهم.

7 ـ شفان: الفنان الكوردي المعروف، وقد اشتهرت أغنياته عن مأساة مدينة حلبجة بشكل واسع خاصة بين الأطفال الأكراد

 8 ـ في 13 / 1/ 1988 قامت قوات البيشمه ركه ـ الأنصار ( الجبهة الكوردستانية ) في منطقة بهدينان بعملية واسعة احتلوا فيها مدينة ناحية ديره لوك لمدة يومين، ولم تستطع قوات السلطة الدخول إلى ديره لوك إلا بعد انسحاب قوات البيشمه ركه.

 9 ـ قطع: منحدر صخري حاد وشاقولي، وكثيرا ما يكون بارتفاعات عالية ويكون خطرا جدا حين تكون على حافته طرق وممرات أجبارية.

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com