|
الرحلة الشامية (الحلقة الثالثة) بهلول الكظماوي / أمستردام
عندما دخلت الشام (دمشق) ونزلت في بيت كان قد استأجره لي مسبقاً عديلي كما أسلفت، كنت قد وضعت في حسباني أنني سألتقي ألكثير من الأصدقاء القدامي وزملائي ورفاق طريقي الذين فارقتهم منذ زمان بعيد، وهم الذين قضيت معهم سنين التغرّب والابتعاد عن الوطن العراقي الجريح، فتقاسمت معهم الكثير من المرارة والقلقل من الحلاوة في غربة قاتلة، لكنها تهون عندما تكون مع أخوة في الطريق متعاضدن ومتعاونين في السرّاء والضرّاء. و لهذا كنت أحسب حسابي بأن لا أكون ضيفاً ثقيلاً على أحد، وخصوصاً أنا عليل وأحتاج الى الراحة والعناية، ولهذا كنت افكّر كيف سأتملّص ممن سيعزمني على الغداء والعشاء ويمسك بي للمبيت عنده. و لكن الذي حدث أن وجدت غالبيتهم قد رحلوا من الشام، فامّا رجعوا الى العراق، واما ذهبوا الى اللجوء الى اوربا وبلد آخر، ولم يبق منهم الاّ النزر القليل ممن لا حول له ولا قوّة. و هذا لا يعني ان الشام قد خلت من العراقيين، بل هي ازدادت أكثر من ذي قبل بالتواجد العراقي الوافد اليها من جديد هرباً من جحيم التصفيات الجسدية العشوائية وسوء الخدمات وانعدام الامن اضافة لأنعدام مقومات الحياة الاساسية من نفط وغاز وكهرباء وماء وصحة وتعليم.... الخ. و لكن هذا التواجد العراقي الجديد الذي وجدته كان من أجيال لا أعرفها من قبل. الاحظ وأنا أسير في حي السيدة زينب أجد الكثير من أصحاب الدكاكين وأصحاب المحلات اضافة للعمال الذين يشتغلون بها يكاد يكون غالبيتهم من العراقيين الذين وفدوا مؤخراً بعد الاحتلال الامريكي للعراق. و الحقيقة كنت أسمع قبل قدومي بوجود أيتام النظام العراقي السابق (نظام صدام حسين) وتمركزهم بالشام، حيث سافرت الى العراق من قبل عبر الاردن ومكثت بها عدة أيام فوجدت عمّان عاصمة الاردن تعج آنذاك بمظاهر التأييد لنظام صدام من لافتات علقت في شوارعها تبشّر بعودة القائد المنصور بالله (ويعنون به صدام) الى الكتب والجرائد والمجلات المنتشرة بكثرة في مكتبات الاردن والتي تمجد صدام ونظامه وحزبة اضافة الى صوره الملصقة في كل مكان من العاصمة الاردنية (عمان). و لهذا كنت أتوقّع نتيجة لما كنت رأيته بنفسي في الاردن وكنت اسمعه عن تواجد ايتام النظام العراقي الصدامي في سورية، كنت أتوقع الشام هي ايضاً مثل عمان بالنسبة لتأييدها للنظام العراقي البائد. و لكن الذي حصل هو العكس تماماً، فقد وجدت غالبية العراقيين المتواجدين في حي السيدة زينب هم من المعارضين لصدام حسين وحزبه، وهم مستبشرين برحيله، وان كانوا يفضلون أن يكون رحيله وسقوطه على يد الشعب العراقي وليس على يد المحتلين الامريكان الذين يعتبرونهم هم (الامريكان) أسياد صدام والداعمين له طيلة سنوات محنة الشعب العراقي والآن انتفت الحاجة منه ولهذا تخلص منه أسياده القدامى بعد أن استنفذوا أغراضهم منه. كنت قد ذكرت في الحلقة الاولى أني قد زرت مكتبات في الشام واقتنيت كتباً منها، وأنا اليوم اذكر مضيفاً الى ما أسلفت هو أني وجدت في تلك المكتبات كتباً معادية لصدام حسين ونهجه العدواني مثل كتاب (نهاية دكتاتور) وكتباً اخرى تمجد نضال الشعب العراقي ضد الدكتاتورية الصدامية البائدة وتدين سياسة النظام السابق القمعية للشعب العراقي. حتى اني وجدت معرضاً للكتب مقام في باحة محطة سكك حديد الحجاز وهو بناء أثري تأريخي، وجدت كتباً في هذا المعرض لمؤلفين أكراد عراقيين يؤيدون فيها الحكومة العراقية الجديدة التي تشكلت بعد سقوط الصنم. طيلة تواجدي في الشام كنت التقي كل يوم جمعة مع أخوة لي من التجار العراقيين (كبار السن) كانوا قد سكنوا الشام منذ ربع قرن ولا يزالون مقيمين فيها. كنت التقيهم عند صلاة الجمعة في مسجد الزهراء (ع) الواقع في حي الامين. و تعمّدت بسؤآلي لهم عن أوضاعهم فأخبروني بأنهم معزّزين مكرمّين، ولم يضايقهم أحد من السلطات السورية، فلهم كامل الحرية في السكن والعمل والاقامة، بل تحسن وضعهم القانوني أكثر من ناحية جواز السفر العراقي الذي لم يكونوا يحق لهم أن يمتلكوه في زمن النظام العراقي السابق، واليوم يحمدون الله لأن السفارة العراقية في دمشق قد منحتهم هذا الحق الذي كانوا محرومين منه ولم يبق أي عراقي في عموم سوريا لا يمتلك وثيقة وجواز سفر. سألتهم هل هناك تواجد لجماعة صدام في الشام ؟ فأخبرون انهم يسمعون سماعاً فقط... ويقال أن لهم تواجد غير منضور في منطقة دمر وفي منطقة جرمانا (و المنطقتان من ضواحي الشام). ثم عقّـب أحدهم على سؤآلي : حتى وان تواجد مثل هؤلاء فهم يعيشون كالخفافيش، رغم انهم يمتلكون رؤوس الاموال التي سرقوها من الدولة العراقية التي كانوا متسلطين على أموالها وخزائنها الا انهم يبتعدون عن أماكن تواجد الغالبية من العراقيين لسببين : السبب الاول هو الخوف من الاحتكاك بالعراقيين. و السبب الثاني ان الدولة السورية حتى وان سمحت لهم (الصداميين) بالسكن في سوريا الا انها لا تسمح بحدوث احتكاك بين هؤلاء الصداميين وبين الغالبية من العراقيين المقيمين على اراضيها لضروف قاهرة. وصية : وصية شيخ كبير السن هي أمانة في عنقي يجب أن اؤديها. أوصاني حينها أحد كبار السن هؤلاء بأن ابلّغ بكتاباتي من يهمهم الأمر واوصل اليهم كلامه وهو : أن صدام حسين كان سيئاً وظالماً في كل شيئ، ما عدى شيئ واحد كان عادلاً فيه، الا وهو توزيع ظلمه على الناس بالتساوي، فلماذا الاعلام الحكومي العراقي الجديد اليوم يغمض عيناً ويفتح اخرى فيما يتعلق بالاختراقات الحدودية لسوريا وللاردن، فلا نكاد نسمع اي اختراق حدودي للعراق عن طريق الاردن، بينما نسمع دائماً وابداً بان سوريا هي التي ترسل بما يسمى المجاهدين (وهم الارهابيين المخربين) الى العراق، فمليارات الدولارات التي هربها ايتام النظام الصدامي ذهبت جلها الى الاردن وعائلة الرئيس الدكتاتور العراقي المخلوع ترفل برغد العيش في الاردن وتتآمر على العراق والعراقيين منطلقة من الاردن وتدريب الشرطة وضباط الجيش العراقي الجديد عهد بتدريبه الخنزير بن الخنزير بريمر الى الاردن (و الكلام هذا منقول بأمانة من الشيخ العراقي الكبير بالسن) وأنا أنقله بأمانة عن لسانه، واضيف من عندي بأني وكثير من العراقيين كان قد سمع من على شاشات الفضائيات أول رئيس لجمهورية العراق الشيخ غازي عجيل الياور يقول : انّ تكلفة تدريب الشرطي العراقي في الاردن تعادل تكلفة طالب جامعي في الدراسات العليا في جامعة كامبردج البريطانية. أمّا الشيئ الآخر الذي اريد أن اثبته شخصياً انا كاتب هذه السطور هو : نعم هناك تواجد أرهابي من التابعية السورية الذين كانوا يسكنون منطقة الكرخ من المعارضين لنظام الرئيس السوري الراحل (حافظ الأسد) كان قد أسكنهم صدام حسين في شقق فاخرة وفارهة في (شارع حيفا تحديداً)، وهؤلاء تضرّرت مصالحهم بعد سقوط ولي نعمتهم صدام وحزبه، ولهذا هم اليوم يقومون بأعمال ارهابية لأقلاق أمن العراق الجديد بالتعاون مع قوات الاحتلال لأدامة أمد هذا الاحتلال البغيض، كما انه ليس من المستبعد أن تكون لهم خلايا من أهاليهم ومجاميعهم التنضيمية داخل سوريا يساعدونهم في اجتياز نقاط عبور من الحدود العراقية لتهريب مقاتليهم واسلحتهم وموادهم التخريبية الى العراق. أعود لأذكر للقارئ الكريم بأنك اين ما ذهبت في عموم سوريا (و ليس في الشام فقط) وتسأل أين يقع شارع العراقيين فتجد الجواب أنه يقع في حي السيدة زينب (ع) على جانبي تقاطع مفرق الحجيرة. تجد في هذا الشارع كل شيئ عراقي، الكلام واللهجة العراقية تسمعها وانت تسير في الشارع، تجد مطعماً لكباب السليمانية، مكتب سفريات الكاظمين، مكتب الجوادين، مكاتب سفريات الى بغداد وبقية المحافظات، مكاتب حجز تذاكر الطيران، مطاعم، فنادق، شقق سكنية للايجار كلها بأسماء عراقية، مكاتب الحوزات العلمية للسيد السيستاني والسيد فضل الله. كنت أحن الى (ربعي) وأصحابي فاقصد كل مساء الحسينية الحيدرية في الحجيرة، وهي الحسينية التي بنيت حديثاً أضافة الى بقاء الحسينية القديمةالتي تبعدعنها بمسافة قليلة متواجدة على حالها القديم لم يطرأ عليها أي تغيير سوى ظهور علامات القدم عليها لعدم الاهتمام بها، بينما الحسينية الحيدرية الجديدة حديثة البناء، فارهة مكيفة غير انها تحتاج الى الروح القديمة والتواجد القديم اذ كان المتواجدين فيها يفوقون المائة مصلي عند صلاة المغرب والعشاء بينما لا تجد حالياً اكثر من عشرة افراد في الحسينية الجديدة. كنت قد ذكرت قبل قليل بأني كنت قد ذهبت الى العراق عبر الاردن بعد سقوط النظام، وهنا احب ان اسجل أني لاحظت اثناء تجوالي في عمان سيارة نزل منها شخص يعتمر عقالا عربياً، نزل من سيارته الخاصة هذه ونزل من السيارة التي تتبع سيارته أفراد حمايته ليدخلوا الى بناية اظنها سكنه ومكتب عمله، فسألت صاحبي الذي تبسم بخبث عندما شاهده وقال لي (نافخيه للجراب) وهي عبارة عن كناية تقال للشخص الذي تبوأ مكانة هو ليس اهلاً لها، لانّه ادنى منها بكثير ولكن هناك من بوّأه لهذه المكانة ليستفاد من خدماته، وأصل كلمة (جراب) بالعاميّة العراقية تعني (القربة)، المصنوعة من جلد الماعز وجلد الغنم، فهو كما القربة التي تنفخ لتطفو على الماء حاملة صاحبها لتحميه من الغرق، سألت صاحبي عمن يكون هذا (الجراب المنفوخ) فأجابني انه يعرفه منذ أن كان صبياً صغيراً، اذ لا يتعدى صاحبه (الجراب) سوى راعي غنم هرب من قريته ليشتغل بالحمالة في السوق التجاري (الشورجة) ببغداد واليوم هو يرفل بنعيم مسروق من اموال الدولة العراقية البائدة ويقيم بالاردن مدعياً انه شيخ من مشايخ عشائر العرب. و في اليوم الثاني واذا بنا (أنا وصاحبي المقيم بالاردن والذي يعاني ما يعانيه من الجربان) اذا بنا نصادف في طريقنا شخص ملتحي محاط بحراس من خلفه فتبسّم صاحبي مكرراً تلك الابتسامة الخبيثة قائلاً لي أتعرف من هذا ؟ فأجبته بالنفي، فقال لي هذا الشخص بالاصل قد اعتمر العمامة حديثاً وان لم يلبسها الآن لأنه يتحاشا لبسها في الشارع.... لقد كان هذا الشخص مؤذّنا في الجامع وهو من الناحية العلمية (طرن.... أثول) وكلمة طرن وأثول تقال للبليد والمغفل الجاهل, ثم أخبرني صاحبي ان هذا الطرن الأثول هو الآن يدعي بأنه يحمل لقب آية الله العظمى، ثم اردفت عليه معقباً : هم نافخيه لهذا الجراب ؟ فأجابني بنعم، اذ كيف لا ينفخوهم وهم (اكل ونوم يا ماللكوم) وبتعبير شامي : أكل ومرعه وقلّة صنعه. أرجع مرة ثانية الى الشام لاقارن بينها وبين ما شاهدته في الاردن، نعم لقد شاهدت في الشام وكلاء السيد السيستاني وهم يمشون في اسواقها بلا حراس وبلا حاشية، كما رأيت الشيخ الكندي الذي كان زائراً لها ويصلي فينا الجماعة اماماً في الحسينية الحيدرية كل مساء يتمشى منفرداً بدون حاشية وحراس شخصيين له. شاهدت الشيخ حسن الزرقاني عن قرب وهو الناطق الرسمي لمقتدى الصدر يتمشى بصحبة أحد معارفه وأصحابه بدون اية حماية تذكر. التقيت بالشيخ جواد الخالصي لقاءً عابراً في صلاة الجمعة في مسجد الزهراء (ع) في حي الامين بالشام وكان الرجل بمفرده ولم يكن معه احد بمعيته. الشيئ الوحيد الذي جلب انتباهي هو سائق لسيارة اجرة كنت قد ركبت معه، وهو سوري ولكن لهجته لم تكن شامية، فهي أقرب للبدوية منها الى لهجة أهل الشام، حشر هذا السائق نفسه معي في حديث عن العراق وعن العراقيين الشيعة الخونة، وانهم تعاونوا مع المحتل وبالتالي فهم ليسوا بمسلمين فهم فرس مجوس واحفاد لأبن العلقمي....الخ و بالتالي اضطرّيت أن أسأله عن مدى معرفته بالعشائر العراقية، وعن مدى معرفته بأن عشائر شمر وعنزه وزبيد وتميم....الخ، هذه العشائر والقبائل تتكون من الشيعة والسنة على حد سواء ؟ فتعجّب من كلامي واستدرك قائلاً : يا أخي أنا لم أكن أعرف بذلك من قبل ! فقلت له : اذاً لماذا تجادل وتخوض بكلام تجهل صدقيته ؟... هانحن أبناء عمومة وخؤولة من الشيعة والسنة، ومن المستحيل أن يقتل العراقي أخيه العراقي الآخر، واذا كان الضرف استثنائي، واذا كانت هناك فتنة أوجدها فينا المحتل وانجرّ اليها البعض القليل جداً منا، فهل هذا يدعوك بأن تروّج لها بكلامك هذا الغير مستند الى دليل ؟ فعندها اعتذر مني هذا السائق ونزلت من سيارته الى حيث أوصلني. الى هنا أكتفي من حلقتي هذا الاسبوع وأستميح القارئ الكريم العذر على أن اواصل معه اللقاء في حلقة قادمة انشاء الله تعالى. ودمتم لأخيكم
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |