انصبت معظم التعليقات، والتحليلات، والآراء الكثيرة التي رافقت عملية إحباط تفجير السفارة الأمريكية في دمشق، على أن وراء الأكمة ما وراؤها، حتى بعد أن أعلنت السلطات السورية عن حيثيات العملية، وأسماء المنفذين، وخلفياتهم. كما أنّ هناك بعضاً من الكومبارس، سوريين، ومستعربين، ومتلحفين بـ"العُـكل" والدشاديش، في الداخل، كما في الخارج، تناولوا هذا الموضوع بشيء من السخرية، والتهكم، والريبة، والشك، والحذر، واعتبروها حبكة، وتمثيلية مدبّرة، قامت بها السلطات السورية، الغاية منها إرسال عدة رسائل، وإشارات، لجهات بعينها، بغية قطف ثمار سياسية تصب في خانة النظام السوري، ورصيده السياسي العام، وتمكـّنه، بالتالي، من فتح قنوات اتصال مع هذه الجهات، تبدو، حالياً، وظاهرياً، مسدودة، ومحكمة الإغلاق. وبالأمس، فقط، أفردت صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، سعودية الهوى، والتمويل، فيما بدا وكأنه حملة متعمدة ضد سوريا، حيزاً خاصاً، وفي مكان لافت، لاثنين من كتابها البارزين، وهما طارق الحميّد رئيس التحرير، وعبد الرحمن الراشد، "العقل المدبّر"، mastermind، والمشرف"من بعيد" على الصحيفة، والمدير العام لقناة العربية، التي تتخذ من دبي مقراً لها، فنـّد الكاتبان كلية، ومن خلالها، جملة المزاعم السورية، والتفسيرات، التي قدمّتها سوريا فيما يتعلق بالعملية الأخيرة، مصحوبة بشحنة عالية من التشكيك، والارتياب، لدرجة أن الكاتبين المذكورين، تطابقا في اعتبار أن ذلك، كلـّه محض تدبّير، وفبركة أمنية، وبوحي من النظام نفسه، وأن هؤلاء "الإرهابيين المفترضين"، ما هم سوى بضعة مساجين، استخدمتهم الأجهزة السورية في "تمثيليتها الأمنية" المذكورة.
فهل هناك، فعلاً، من مصلحة حقيقية للسلطات، في سوريا، وهي غير المغرمة، إطلاقاً، بإثارة أية زوابع إعلامية، ومن أي نوع كان، أن تفتح هذا الباب على نفسها، وتدبّر هكذا عمل، وما هي غاياتها من وراء ذلك، وهي أيضاً، الحريصة دوماً، على أن تظهر بذاك المظهر الفولاذي الذي لا ينحني أمام العواصف، والأنواء السياسية، والذي لا يسمح، بالتالي، بوجود أية خروقات، أو فجوات أمنية محتملة يمكن أن يتسلل منها، أحد ما، للداخل الوطني المحصن بشكل جيد؟ وهل هذه العمليات، والاختراقات الأمنية، هي ضعف في الأداء الأمني لأي نظام، أم أنه حالة طبيعية تتعرض لها مختلف أنظمة العالم، وحتى في أعتى الدول التي تتبع نظاماً أمنياً صارماً للغاية كبريطانيا، والولايات المتحدة، وإسرائيل نفسها التي تثير إعجاب، وهيام، وغرام الحميّد، والراشد، أساطين إعلام البترودولار الأجوف، اضطرتها "المفاجآت" الأمنية المستمرة، والعمليات الفدائية الجريئة، في قلب حيفا، وتل أبيب، والخضيرة، لأن تبني الجدار الأمني الذي يزنـّر الضفة الغربية خوفاً من تسلل فدائيين فلسطينيين، جعلوا حياة الموساد الصهيوني كابوساً، وجحيماً لا يطاق؟ فيما كان الحادي عشر من سبتمبر، وتفجيرات تموز/يوليو من العام الماضي، في قلب لندن، دليلاً عملياً، على الفشل الذريع، لهذه الأجهزة الأخطبوطية الفتاكة المعروفة؟ أم أن ما جرى في عواصم كبرى، يندرج كله، أيضاً، في نطاق العمل السينمائي، والفن السابع، و"الأفلمة"، والمسلسلات الأمنية، حسب تفسيرات الكاتبين المبجلين؟
ومهما يكن من أمر، ومهما تكن تلك التأويلات وتشعباتها، إلا أن هذا يطرح، فعلاً، تساؤلات عدة أثارتها العملية الأخيرة، وتداعياتها على الصعيد السياسي، والاجتماعي، والإعلامي، ومنها:
1- هل هناك، فعلاَ، تهديد إرهابي حقيقي يهدد سوريا بشكل عام، والنظام بشكل خاص؟ وأن هذه العمليات هي بتدبير جماعات إرهابية فعلاً؟ أم أن الأوضاع من القوة بحيث لا تشكل هذه العمليات المتفرقة وشبيهاتها أي تهديد جدي؟
2- هل هكذا تهديد، وهكذا عمليات متفرقة، وبائسة لأفراد هنا، هناك، بقادرة على تقويض النظام السياسي القائم في سوريا، وهل أفلحت، أصلاً، في غير مكان؟
3-هل هذه العمليات من تدبير أفراد معينين، أم جماعات، أم منظمات، وأحزاب، وحكومات إقليمية، وأطراف خارجية؟
4- هل هناك نمو باتجاه التشدد، والتطرف، في الشارع السوري، وما هي درجته، وهل هناك ظروف محلية، وإقليمية، ودولية ساعدت عليه، أم هو نتيجة طبيعية لمجتمعات اتصفت عموماً بالمحافظة؟ وهل هذه المجتمعات بتركيبتها الإيديولوجية، وإرثها الفكري التاريخي حاضنة للإرهاب، ومنتجة، أم مستوردة له، وأن ذلك كله دخيلاً عليها؟
5- هل تؤدي هذه الخدمة أية خدمة للنظام؟ وكيف؟ ولماذا؟ وبأية طريقة؟ أم أنها بداية لتحد ما تواجهه السلطات السورية بشكل خطير قد يصعب التحكم به فيما بعد؟
6- هل أن سوريا ذاك البلد الذي اشتهر عبر التاريخ بالتعايش، والتفاهم، والتسامح يتقبل الفكر المتطرف، والتشدد، أم أن موجة الإرهاب الأسود لن تسثني سوريا، أيضاً، كالموجات الفكرية التي سادت وبادت سابقاً، وهناك أطراف إقليمية، ودولية تقف من ورائها، لتطويع المنطقة لغايات واستراتيجيات دولية معلنة ويجاهر، ويتبجح بها دعاتها، ومن لف لفهم من أتباعهم، وحاشيتهم، وبطاناتهم السياسية هنا، وهناك؟
7-هل أن الغزو الأمريكي للعراق، والعدوان الوحشي الإسرائيلي على لبنان، والممارسات الصهيونية البربرية في فلسطين، والتي تطال الآمنين والأبرياء، تساهم كلها، وبشكل ما، في نمو تيارات، ونزعات التطرف في الشارع العربي، والإسلامي.
8-هل المعالجة الأمنية، وحدها، لملف الإرهاب، قادرة على كبح جماح هذا التيار، أم أن ذلك ينبغي أن يترافق مع سلسلة من الإجراءات العملية الأخرى، كمحاربة البطالة، والفقر، ورفع المستوى المعيشي للمواطنين، والعمل على نشر الوعي، والعلم، والمعرفة، ومحاربة الجهل، والتخلف، والتطرف، وفضح الترهات، والخزعبلات، والأباطيل، ودعم التعليم، والطفولة، والأمومة......إلخ.
9- هل ميّز الإرهاب مجتمعاً عن آخر، ونظاماً عم نظام، ومكاناً عن آخر، أم أن ضرباته شملت الجميع ولم تستثن حتى أشد المجتمعات انغلاقاً، وغلواً، وتزمتاَ؟
10- هل ما جرى فعلاً كان مشروع عمل إرهابي خطط له بعناية بالغة، غير أن هناك أعين أخرى تبصر، وترى بأكثر مما يخطط له الإرهابيون، وأن العناية الإلهية وقفت، هي الأخرى، حائلاً دون التنفيذ، وزهق أرواح بريئة؟
ويبقى السؤال الأهم، والأكثر إثارة، وهو ماذا لو نجحت، فعلاً، العملية الإرهابية في مبتغاها، وحققت شيئاً من أهدافها؟ بالطبع لن تنجو سوريا، أيضاً، في هذه الحالة، من ألسنة الراشد، والحميّد، وكل من دار في فلك الإعلام التضليلي المملوك لآل سعود، وسيفر حوا لذلك حتماً، لأن القضية برمتها، أكثر من مجرد حدث إخباري، تتناوله أقلام غير نزيهة، وتعلق عليه.