حين قسّم طيّب الذكر ابن لادن، خريج الدوائر الاستخباراتية السعودية، كما أعلن ذلك، و بعظمة لسانه، "صاحب السمو الملكي والعظمة" الأمير السعودي تركي الفيصل في أكثر من مقابلة، العالم إلى فسطاطين لم يكن يدر بخلده أن فسطاطه الإسلامي، يمكن له هو ألآخر، أن يُقسّم أيضاً إلى أكثر من فسطاط، وفسطاط. وأن العامل الديني ليس الرابط، والجامع فيما بين هذه المجموعات البشرية، والأنظمة المومياءاتية القدرية، بقدر ما هو عامل المصالح، والحسابات السياسية، والارتباطات الخارجية. وأنه من المبكر جداً الحديث عن فسطاط إيماني موحد في وجه فسطاط كافر مشتت، في ظل كم المتناقضات الهائل، والصراعات العديدة، والتفتيت المستمر الذي تزخر به ساحة الفسطاط البن لادني. وأن عملية "الفسططة"، قائمة على قدم وساق، في جسد هذه الأمة، ومنذ فجر التاريخ. والتشقق قائم منذ الأزل وفي هذا الجدار العربي المترهل والمتهافت، برغم صخب الزعيق القومجي، وصراخ تجاره، ومقاوليه، وسماسرته المزاودين، وعبر محاولاتهم الدؤوبة لإحياء هذا التراث الدفين.
فقد سقطت آخر أقنعة الرياء الخطابي، والدجل الإعلامي الرخيص، الذي طبع حقبة طويلة من تاريخ العرب الحديث، والذي توارت خلفه لحى، وشوارب، وزعامات، وسراويل، وعباءات، ودشاديش، وانهارت معها أساطير، وروايات التاريخ المشترك العظيم، ووحدة الهدف، والمصير، وتداعت معه قلاع التضامن الهش الهزيل. وتراجع الفكر القومجي العروبي إلى الحضيض، وإلى درجاته الدنيا، في المواجهة الأخيرة بين حزب الله وإسرائيل، وصار الحديث عنه، في ظل هذه الأجواء المكفهرة، كمن يلقي نكتة في عزاء، ومجلس غمٍّ حزين. وقد حاول الخطاب الرسمي القومجي العتيد، عقوداً من الزمن، أن يوهم المواطن البسيط، بوجود هذا "الشبح" السياسي، والكيان السرابي، الذي لم يكن موجوداً يوماً ما، ككيان سياسي مكتمل النمو والتنظيم، سوى في مخيلة القومجيين، والرهان عليه كحل، وترياق، من كافة الأمراض السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية التي تعصف بهذا الجسد المريض.
وقد قسّمت هذه المواجهة الدول العربية، إلى فسطاطين، لا ثالث لهما. فسطاط بني إسرائيل، وفسطاط المقاومين. وفي سياق المفارقات القاسية، فإنه لمن الغريب فعلاً، أن تنضم لهذا الفسطاط المقاوم الجديد، دول من خارج الفسطاط العربي. ذلك الفسطاط الذي ظل يحلق عالياً، وزمنا طويلاً، متشدقاً بالنفاق القومجي، الذي انفضح عند أول نزال، ومواجهة حاسمة بين الفسطاطين المحدثين. ومن هذه الدول، طبعاً، وهذا ليس بخاف على أحد، إيران التي طالما نعتها محور الاعتدال العربي، وأصوليوه، بالفارسية، والمجوسية، والرافضة، وأصبحت عضواً بارزاً في فسطاط المقاومة والانخراط في قضية الصراع العربي الإسرائيلي في الصميم، بعد أن تراجعت دول كثيرة إلى المواقع المعادية، بفعل معاهدات السلام وعمليات التطبيع، وبعد أن تبلورت في الأفق ملامح حلف(فسطاط) جديد، واصطف المحور السعودي- المصري- الأردني، علانية مع إسرائيل، وأعطاها الغطاء الشرعي للاستمرار، بعدوانها الآثيم، وهذا ما أثار ارتياح أولمرت، والقيادات الإسرائيلية الأخرى، وكما عبر عن ذلك هو بنفسه في أكثر من مناسبة، وتصريح. كما انضم لفسطاط المقاومة الجديد دول صليبية، وغير مسلمة، وشيوعية كفنزويلا، وكوبا، وتجلى ذلك بالموقف النبيل، والمشرّف لهوغو شافيز، ومن على منبر الأمم المتحدة، الذي لم نجد صوتاً عربياً يمجّد المقاومة، أو يتجرأ بالتلويح لها من قريب أو بعيد، أويدين القتلة الإمبرياليين.
فسطاط الأعراب الجديد راهن على إسرائيل، وعلى قوة العدوان والتدمير، وجبروت الطغيان، وذراع التكنولوجيا العسكرية الرهيب، وسلّم مصيره وقياده، وربطه مع كل أوراق اللعبة بفسطاط " الكافرين". إنه فسطاط النخب العربية التقليدية الحاكمة، التي لا تهمها سوى مصالحها الآنية، وحساباتها القـُطرية الضيقة، التي لا تعطي أي بال للبعد القومجي العتيد. إلا أننا شهدنا انكماشاً لهذا الفسطاط الجديد أمام قوة الشارع، والضغط الشعبي، ليكتشف حقيقة وضعف موقفه، ويعلن تراجعاً خجولاً عن مواقفه السابقة. ولقد ظهرت عملية فرز واضحة، بين الفسطاطين الجديدين، لم يسبق لها مثيل في تاريخ العرب الحديث، كما يعتقد، وبقوة، أنه لا مجال للعودة، أبداً، لحدود الفسطاط العربي القديم.
فهل كان هناك ثمة من داع، لأن يقوم "السنيور" بن لادن، صاحب نظرية الفساطيط، بتقسيم العالم إلى مجرد فسطاطين فقط. وكان حرياً به أن يعترف أولاً كم فسطاطاً يمزق فسطاطه العربي والإسلامي الأصلي، قبل أن يتجرأ على عملية "تفسيط" العالم؟ وللعلم، لمجرد العلم فقط، فإن مجرد المحافظة على ما هو موجود من "فساطيط"، في عالم عربي كئيب هو إنجاز، ونصر كبير؟