|
تهاوى فوق ضريح العبادة عقيلة آل حريز حمل أمنياته معه إلى حيث وعِد ... كان أذان الفجر وشيكاً حين خرج من داره ... راقب السماء بتمعن وَتبسم ... شعر بشوق شديد لهم، لمن أحبهم وسبقوه إلى حيث ينتظر ... فمنذ أن رحلوا عنه قبل زمن، عقد آماله المؤجلة على أسرجة صدر يمتلئ بالآهات والمحن، ومضى حين تكاثرت عليه الأحداث لتباغته بجسارتها بعد أن أطفئوا النور بداخله ... سار عدة خطوات متباعدة متخطياً بعض البيوت والأزقة ... كان الظلام لا يزال يفترش الأرض حين خرج من داره كعادته فجر كل صلاة ... لم يتمكن من النوم تلك الليلة وكأنه يترقب حدثاً هاماً ... أحيا ليله في عبادة وتلاوة منتظراً بزوغ الفجر ليصلي بهم ... وفي طريقه التقى ببعض الرجال الذين يهمهمون وقد خرجوا للتو من منازلهم يسيرون على خطاه قاصدين الصلاة بإمامته ... وعلى جانب الطريق كان هناك رجل آخر بغيض الرؤيا يتبعهم بتوجس تبتلع الطريق خطواته بهمس مريب ... شقي من أشقى الخلق، لم يعتد الصلاة ولا حضورها معهم، لكنه خرج إليها يبتغي أمراً خطط له من ورائها... فتحرك خلفهم بخطوات مترنحة وكأن سُكراً ما يعتلي رأسه الكريهة ... ونظراته الزائغة مرتكزة على الطريق تتابع هدفاً يلوح أمامها ... يحمل بين ثيابه شيئاً يحاول إخفائه عن الجميع، وكان يمني نفسه بطمع الوصال إن أفلح في الوصول لهدفه . * * * تقدم "عليٌ " أمامهم بخشوع وكبر ليصلي بهم ... قرأ وركع وسجد ... قام وقنت بعد أن قرأ ... هوى إلى السجود خاشعاً ... باغته أشقى خلق الله بعد أن طاف مترنحاً حول محراب الروح مرات عدة ... قام من مكانه ليعاجله بضربة متجاسرة أدمت كاحل الصلاة - شُلت يداه -... فتهاوى الإمام من سجوده يسبح فوق ضريح العبادة ولم يُتم صلاته بعد ... سبحت دمائه الزكية حوله تقدس ملكوت الله، وشفاهه تلهج بحمده لتردد بيقين خالص "فُزتُ ورب الكعبة" ... امتلأ المكان حوله ضجيجاً وصخبا ... حملوه إلى بيته وكل ما حولهم ينطق بخراب الإمامة ... حاولوا أن يعالجوا جرحه وأن يوقفوا نزف دمائه فلم يفلحوا ... تأملوه غارقاً في سكون مهيب يتلو قرآنه ... راقبهم يتجادلون في أمر ذاك الشقي الذي هوى عليه بسيفه حين كان ساجداً ... سمع بعضهم يتهدده وآخر ينوي قتله بينما راح بعضهم بحنق يشتمه ... تقلد بصوته الألم أخيراً ليفصل بينهم ... فأوصاهم به خيرا حتى يُقضى أمره، فهو لا يزال أسيرهم، قال : " أطعموه من طعامي، وأسقوه من شرابي،فإن أنا عشت فأنا أولى بحقي، وإن أنا مت فاضربوه ضربة ولا تمثلوا به، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور" . * * * إنسان هو حتى في لحظاته الأخيرة ... إنسان هو حتى حين يتملكه الوجع ... إنسان هو حين يتحسر عليهم ... يعبد أرصفة نفوسهم بأحكام تطهرهم رغم شُحها عليه ... وحاكم عادل لا يعرف الجور حين يقضي بينهم حتى على نفسه . مرت ثلاثة أيام من الشهر والأمة حزينة، وكل ساعاتها تنطق بالحزن المؤبد ... مرت ثلاثة أيام والصلاة بلا إمام ... أيام موجعة احتضنها شهر الصيام ... ثلاثة أيام والأمة تقلب تفاصيل اللحظة التي أجهدتها، فيرسم مارد الحزن فيها أشباحاً تغلف وجوهاً تتعثر بثقل الحداد ... وكانت تبحث عبثاً عمن يعيد لها وعيها الذي سُلب منها فجأة ... عمن كان يمنحها الراحة والأمان ومن كان صادق الفعل والقول معها ... تاهت الأمة بلوعتها تبحث عن حكيمها الذي فقدته فجأة، وعن باب مدينة العلم الذي لم تعرف له قدره حقاً إلا حين لملم آماله ليرحل بعيداً عنها ... لتُقيم فوقه مأتما حقيقيا يقدح نار الوجد في كيانها كله بسعير لا يطفئه الندم ... كل هذا بعد أن بذر إمامها أيام عمره كله وضحى بالكثير لأجلها. ولم تكافئه بشيء من عثراتها الطويلة معه، غير أخاديد وندوب وطوفان من الحسرة على حالها، هي فحسب من كانت نصيبه منها ... فهل تراها كانت تحتاج لكل هذا الهذيان الطويل لتتحرر من دنسها؟!
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |